يُعَدّ حديث "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" من الأحاديث التي تحمل توجيهًا نبويًا حكيمًا للمؤمنين بالحذر والتعلم من التجارب السابقة. ولكن السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: هل النهي في هذا الحديث يحمل معنى التحريم أم الكراهة؟
نص الحديث ووروده في السنة
جاء الحديث بصيغة: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين". وهو حديث رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما. وتُفَسِّر هذه العبارة أن المؤمن الحازم لا ينبغي له أن يقع في نفس الخطأ مرتين؛ فهو يتعلم من أخطائه السابقة ويأخذ الحذر في المستقبل.
صيغة الخبر والنهي في الحديث
تناول العلماء هذا الحديث بنظرات مختلفة، ومن بين الأسئلة التي أثيرت هي: هل فعل "يلدغ" في الحديث جاء مرفوعًا بصيغة الخبر أم مجزوماً بصيغة النهي؟ وهل صيغة الخبر تُحمل على النهي؟
رأي الخطابي وأهل العلم
يُظهر الشرح الذي قدمه الخطابي في "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاري) أن الحديث وإن جاء بلفظ الخبر، إلا أن معناه هو النهي. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المؤمن إلى أن يكون حذرًا ولا يسمح لنفسه بالوقوع في نفس الخطأ مرة أخرى.
يقول الخطابي: "وهذا لفظه خبر، ومعناه أمر. ليكن المؤمن حازمًا وحذرًا، لا يؤتى من ناحية الغفلة مرتين". وقد أشار إلى أن هذا السلوك يجب أن يكون في كل جوانب الحياة، سواء كانت الأمور الدينية أو الدنيوية.
هل النهي للتحريم أم للكراهة؟
رغم أن الحديث يأتي بصيغة النهي، فإن العلماء يميلون إلى القول بأن هذا النهي ليس للتحريم، بل هو للكراهة. بمعنى آخر، لا يُعتبر الوقوع في نفس الخطأ مرة أخرى محرمًا شرعًا، لكنه غير مستحب ومكروه.
ففي تفسيرهم للحديث، يستخدم العلماء عادةً تعابير مثل: "لا ينبغي للمؤمن" أو "ينبغي للمؤمن أن يكون حذرًا". وهذا يؤكد أن المقصود من الحديث هو توجيه المؤمنين نحو الحذر والتعلم من الأخطاء السابقة، ولكن دون أن يكون الوقوع في الخطأ مرة أخرى أمرًا مُحَرَّمًا شرعًا.
الشرح التفصيلي للنهي في الحديث
الكراهة: عبر العديد من شراح الحديث عن أن النهي الوارد في الحديث يُحمل على الكراهة. فقد جاء في "شرح المصابيح" لابن الملك أن معناه: "لا ينبغي للمؤمن الحازم أن يخدع مرتين من نفس المصدر". ويعني ذلك أن على المؤمن أن يتجنب الوقوع في نفس الموقف الذي أدى به إلى الخسارة أو الخداع.
التحريم: بينما يميل معظم الشراح إلى أن النهي هنا للكراهة، إلا أن البعض قد يجادل بأن التحذير الشديد قد يُفهم على أنه نوع من التحريم الضمني. ولكن غالبية الشروح تميل إلى أن الأمر ليس على مستوى التحريم القطعي.
التوجيه النبوي نحو التعلم والحذر
يتضح من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد توجيه الأمة نحو الحذر واليقظة، سواء في الأمور الدينية أو الدنيوية. ويُعَدّ هذا الحديث واحدًا من الأدلة التي تُظهر حكمة الإسلام في تعليم أتباعه كيفية التعامل مع المواقف الحياتية، وكيفية تجنب الأخطاء التي قد تؤدي إلى خسائر مادية أو معنوية.
يقول ابن بطال في "فتح الباري": "فيه أدب شريف أدب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته". وهذا الأدب النبوي يُرشدنا إلى أهمية أن نتعلم من تجاربنا السابقة وأن نتجنب الوقوع في نفس الأخطاء مرة أخرى.
تطبيق الحديث في الحياة اليومية
يمكن تطبيق هذا الحديث على العديد من جوانب الحياة. سواء كان ذلك في العلاقات الشخصية أو في القرارات المهنية أو حتى في الأمور المالية. المؤمن الذي يتعلم من أخطائه ويأخذ الحذر من أن يقع في نفس الفخ مرتين هو شخص يمتلك الذكاء والحكمة.