تتجسد عبقرية حسان بن ثابت الأنصاري في بناء خطاب هجائي يُوظِّف التشبيهَ الحجاجيَّ كأداةٍ مركزيةٍ لتفكيك حجة الخصم وترسيخ التصور الفني، وذلك عبر نسجٍ بلاغيٍّ يُحيل السخريةَ إلى آلية إقناعٍ عقلانيةٍ، كما يُشير عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" إلى أن التشبيه لا يقتصر على تجميل الكلام، بل يتحول إلى حجةٍ حين يُبنى على علاقاتٍ منطقيةٍ تُخاطب العقلَ قبل العاطفة. وقد استثمر حسانُ هذه الرؤيةَ بتشبيه الأنصار بالأسود في قوله: "فِتيانُ صِدقٍ كَاللُيوثِ مَساعِرٌ"، حيث يُحوِّل الصورةَ التزيينيةَ إلى دليلٍ حجاجيٍّ يستند إلى الرصيد الثقافي العربي الذي يرى في الأسد رمزَ الشجاعة المُطلقة، كما يُؤكده ابن رشيق القيرواني في "العمدة" عند تحليله لدور الرموز الحيوانية في الإقناع الشعري.
لا ينفصل البناءُ الحجاجيُّ عن التدرج المنطقي في الخطاب الهجائي، فالشاعر يبدأ بتفكيك مصداقية الخصم عبر افتتاحيةٍ لاذعةٍ: "زَعَمَ اِبنُ نابِغَةَ اللَئيمُ"، حيث تُحمل لفظةُ "زعم" -بحسب تحليل محمد عبد المطلب في "البلاغة والأسلوبية"- دلالةَ التكذيب المُضمر، بينما يُرسخ وصفُ "اللئيم" شرعيةَ الهجوم الأخلاقي، تمهيدًا لبناء الحجة الرئيسية التي تُقابل ادعاءَ الخصم بحقيقةٍ تاريخيةٍ (فداء الأنصار للنبي). هذا التمهيد يُذكِّر بما سمّاه طه حسين في "في الشعر الجاهلي" بـ "تفكيك الخصم سرديًا قبل مواجهته فكريًا"، وهو أسلوبٌ يعكس وعيًا بلاغيًا بآليات الإقناع التراتبي.
ويبلغ التشبيهُ الحجاجيُّ ذروتَه حين يربط حسانٌ بين شجاعة الأنصار ونتائجها المادية في ساحة القتال: "مَن يَلقَهُم يَومَ الهِياجِ يُعَرِّدُ"، حيث تُقدَّم العلاقةُ السببيةُ بين التشبيه (الأسود) والنتيجة (فرار الأعداء) كدليلٍ منطقيٍّ يُجبر المتلقيَ على تقبُّل الحُكم، كما يرى إحسان عباس في "فن الشعر" أن التشبيه الحجاجيَّ يتحول إلى "برهانٍ شعريٍّ" حين يُقيم الشاعرُ علاقةً ضروريةً بين المشبَّه والمشبَّه به. هذه الآليةُ تُعمّق المفارقةَ التصويريةَ بين صورة الأنصار الأشداء وخصومهم الجبناء، الذين يهربون من "صفير المرعد"، وهو تشبيهٌ يستند -كما يوضح مصطفى ناصف في "تحليل الخطاب الشعري"- إلى الانزياح الدلالي، حيث يُحوِّل الخوفَ من صوتٍ عاديٍ (الرعد) إلى تعبيرٍ عن الجبن الوجودي، مما يُضفي على السخرية بُعدًا تراجيديًا.
ولا تنفك السخريةُ عن الطعن في النسب عبر توظيف التورية في قوله: "وَبَنى لَهُم بَيتاً أَبوكَ مُقَصِّراً كُفراً وَلُؤماً بِئسَ بَيتُ المَحتِدِ"، حيث تتحول "البيت" من دلالتها المادية (المسكن) إلى المجازية (الأصل)، وهو ما يُشير إليه شكري عياد في "الانزياحات الدلالية" إلى أن التوريةَ هنا تُحوِّل الهجاءَ من مستوى الفرد إلى تفكيك شرعية الجماعة، مستخدمةً أسلوبَ الذمِّ البليغ الذي يُنهي الحوارَ بحُكمٍ قاطعٍ، كما يرى عبد العزيز عتيق في "البلاغة العربية" أن الختامَ الحجاجيَّ يُشبه "الحكمَ القضائي" الذي يُلزم المتلقيَ بقبوله.
هكذا يتكامل الخطابُ الهجائيُّ عند حسان بن ثابت كنسيجٍ بلاغيٍّ يدمج بين الإقناع العقلي (من خلال التشبيه الحجاجي والعلاقات السببية) والتأثير العاطفي (عبر الصور الساخرة والمفارقات التصويرية)، مما يُجسِّد الرؤيةَ التي قدمها أبو حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر" عن أن البلاغةَ الفذةَ هي التي "تُعطي العينَ جمالاً، والأذنَ طرباً، والعقلَ يقيناً". فالأبياتُ لا تُسقط الخصمَ فحسب، بل تُقدِّم نموذجًا لبلاغةٍ تفاعليةٍ تُحوِّل الشعرَ من أداةٍ تعبيريةٍ إلى وسيلةٍ حجاجيةٍ فاعلةٍ في الصراع الثقافي، كما تؤكد ذلك مقارباتُ النقد الحديث في تحليل الخطاب الشعري.