كتبت/ أ. م. د. نوال نعمان كريم: إعجاز البيان في آية الإلقاء: رؤية بلاغية تحليلية

الاثنين 14/04/2025
تمثل الآية الكريمة ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ قمة في النظم القرآني المعجز، حيث تتجلى فيها سيمفونية بلاغية متكاملة تعجز عن محاكاتها أقلام البلغاء.

يستهل النص بإسناد الفعل "أَوْحَيْنَا" إلى واو الجماعة المفيدة للتعظيم، ليؤسس لمناخ يليق بجلال المقام، ويشير إلى مكانة المرأة المخاطبة التي أهَّلها الله لتلقي وحيه مع أنها ليست نبية. وفي هذا الإسناد الإلهي استعارة تصريحية تبعية، حيث استعير الوحي - المتعارف عليه للأنبياء - للإلهام القلبي، مما يمنح الموقف قدسية خاصة ويؤكد أن الأمر بالغ الأهمية.

ويتجسد البديع في تتابع الجمل الطلبية التي تنتظم في تدرج نفسي عميق: "أَرْضِعِيهِ" (أمر مريح للأم) ثم "فَأَلْقِيهِ" (أمر مضاد للفطرة) ثم "وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي" (نهي يطمئن القلب)، مما يشكل سلماً بلاغياً يعكس تدرجاً في الموقف والمشاعر. وتتجلى روعة النظم في تموضع الشرط "فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ" بين الأمرين، ليكون الخوف - الذي هو مشاعر طبيعية - مفتاحاً لإجراء غير طبيعي.

ويبلغ الإعجاز البلاغي ذروته في المقابلة الخفية بين "فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ" و"وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي"، حيث يتحول اليم من مصدر للخوف والحزن إلى وسيلة للأمان والفرح. هذه المفارقة البلاغية تعكس منطقاً إلهياً يتجاوز المنطق البشري، وتبرز قدرة الله على تحويل المحنة إلى منحة.

ويتوج النص بجملة اسمية مؤكدة "إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"، حيث يتحقق الكمال البلاغي في تضفير الضمانة الإلهية بحرف التوكيد "إنَّ" مع واو الجماعة في "إِنَّا"، ثم استخدام صيغة اسم الفاعل "رَادُّوهُ" و"جَاعِلُوهُ" التي تفيد الثبات والاستمرارية، مما يبعث الطمأنينة في نفس المتلقي. 

وفي هذه الجملة ترقٍ بلاغي من الخاص (رَدُّ الطفل) إلى العام (جعله من المرسلين)، ومن المادي إلى الروحي، ومن الفردي إلى الجماعي، مما يكشف عن تدبير إلهي يتجاوز حدود الزمان والمكان.

هكذا يتجلى الإعجاز البلاغي في هذه الآية الكريمة التي تنسج من خيوط الألفاظ القليلة نسيجاً دلالياً ثرياً، وتختزل في تراكيبها المحكمة قصة إنسانية مؤثرة، وتبرز من خلال صورها البيانية تدبيراً إلهياً يحول المستحيل ممكناً، والمخيف مطمئناً، والمحنة منحة، والمأزق فرجاً.



إغلاق


تعليقات الزوار إن التعليقات الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي وفكر إدارة الموقع، بل يتحمل كاتب التعليق مسؤوليتها كاملاً
أضف تعليقك
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
عنوان التعليق  *
نص التعليق  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
رد على تعليق
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
نص الرد  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
 
اسـتفتــاء الأرشيف

هل سيتخلى ترامب عن مخططه في تهجير مواطني غزة؟