مقدمة:
منذ انطلاقتها، لم تكن ثورة الشعب السوري مجرد صرخة ضد الاستبداد، بل كانت تعبيرًا عميقًا عن توقٍ شعبي للكرامة، والعدالة، والدولة الوطنية الجامعة.
ومع انتصار الثورة السورية، أصبح من الضروري الانتقال من منطق المواجهة إلى منطق الرؤية، ومن عقلية إسقاط النظام إلى عقلية بناء الدولة.
في هذا السياق، نكرّر في تيار المستقبل السوري ما سبق وأكّده الرئيس السوري أحمد الشرع، بأن: عقلية الثأر لا تبني دولة!
لأنّ من يخطط لمستقبل وطن لا يَسُوقه الانتقام، بل يلهمه الأمل ويقوده العقل والحكمة.
أولًا: الثأر، عقلية تعيق بناء الدولة
الثأر، كمنهج تفكير، لا يقتصر على سلوك فردي، بل قد يتحوّل إلى سياسة ضمن جماعات أو مشاريع. وعندما يتغلغل في بنية القرار السياسي، فإنه يحوّل الدولة إلى أداة انتقام، ويُفقدها شرعيتها وأخلاقيتها.
الثأر يهدد الدولة في خمسة أوجه:
يعطّل العدالة ويحلّ محل القانون منطق القصاص الشخصي.
يفكك المجتمع عبر إذكاء الانقسامات الطائفية والعشائرية.
يُضعف المؤسسات لأن البُنى الحاكمة تصبح وسيلة لتصفية الحسابات.
يؤجج العنف ويحول الساحة الوطنية إلى ميادين صراع مفتوح.
يمنع المصالحة ويحول دون أي مشروع وطني شامل.
ثانيًا: الدولة لا تُبنى إلا بالعدالة والمصالحة
فالدولة الحديثة تقوم على ثلاثة ركائز رئيسية: العدالة، المصالحة، والمؤسسات.
ولكي تكون الدولة قوية، لا بد أن تستند إلى شرعية لا تستمدها من الغلبة العسكرية أو من روح الانتقام، بل من القانون والدستور والإرادة الجامعة.
وفي هذا الإطار، تعد تجارب الشعوب ملهمة لنا:
نيلسون مانديلا: رفض عقلية الثأر بعد عقود من الظلم، وأطلق مشروع "لجنة الحقيقة والمصالحة".
لي كوان يو: بنى دولة متقدمة من لا شيء، دون أن يدخل في صراعات انتقامية مع خصومه.
رونالد ريغان: أنهى الحرب الباردة بالحوار مع السوفييت، لا بالمواجهة.
رجب طيب أردوغان: على الرغم من التحديات فقد رسّخ مؤسسات قوية بعيدًا عن سياسات التصفية الشاملة.
ثالثًا: الثورة ليست هدفًا، بل وسيلة لبناء النظام البديل
لا تكفي الثورة لإقامة الدولة، بل هي مقدمة، وعنوانها الأساس هو التغيير.
غير أن التغيير لا يكتمل إلا إذا تحوّل إلى مشروع سياسي يُخرج سورية من الفوضى إلى الاستقرار، ومن العسكرة إلى السياسة، ومن الثأر إلى العدالة.
لهذا يؤمن تيار المستقبل السوري أن المرحلة القادمة لا بد أن تُبنى على خارطة طريق واضحة تشمل:
المرحلة الأولى: المصالحة والعدالة (0 – 2 سنوات)
إتمام الحوار الوطني ودونما إقصاء.
إنشاء لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة.
إصلاح القضاء وضمان استقلاليته.
تهدئة الصراعات الأمنية، وتفكيك المنظومات الخارجة عن القانون.
مشاريع إعادة إعمار عاجلة في المناطق المنكوبة.
المرحلة الثانية: بناء الدولة (2 – 5 سنوات)
دستور جديد يُعبّر عن التوازن بين المكونات.
انتخابات نزيهة بإشراف دولي.
إصلاح اقتصادي متدرج يقوم على الشفافية ومكافحة الفساد.
إتمام دمج الفصائل ضمن جيش وطني مهني غير مؤدلج.
تفعيل الإعلام الحر والمساءلة الشعبية.
المرحلة الثالثة: تعزيز الهوية والتنمية (5 – 10 سنوات)
بناء تعليم موحد يعزز الانتماء والاحترام المتبادل.
تحقيق العدالة الاجتماعية، وتمكين المرأة والشباب.
إطلاق استراتيجية وطنية للابتكار والاقتصاد الإنتاجي.
استعادة الدور الإقليمي والدولي لسورية من خلال الدبلوماسية الذكية.
رابعًا: تحديات ما بعد الصراع، حلول واقعية:
سياسيًا: نواجه أزمة ثقة عميقة، ويكمن الحل في الشفافية، وتفعيل دور الحكومة السورية الجديدة وإعطائها صلاحيات واسعة لتحظى بدعم شعبي.
أمنيًا: الفوضى الناتجة عن تفكك الأجهزة تُعالج بدمج مشروط للفصائل، وإنشاء جهاز أمني وطني خاضع للرقابة المدنية.
اقتصاديًا: دمار البنية التحتية والفقر يُواجَه بخطة إعمار ذكية، وشراكات تنموية، ودعم مباشر للفئات الهشة.
اجتماعيًا: النزعات الطائفية تُواجه بمنظومة تعليمية موحّدة، وإعلام مسؤول يُروّج للمواطنة.
لاجئون: مشروع العودة الآمنة يجب أن يترافق مع ضمانات قانونية، وسكن كريم، وبرامج اندماج وطني.
خامسًا: سورية أمام خيار مصيري:
إننا أمام لحظة مفصلية: إما أن نعيد إنتاج دائرة الثأر، فنغرق في مزيد من الانقسام، أو نفتح صفحة وطنية جديدة تقوم على العدالة، والشفافية، والكرامة للجميع.
وهنا فإن رسالة تيار المستقبل السوري واضحة:
لا دولة مع الثأر، ولا حرية بدون عدالة، ولا مستقبل بدون مصالحة وطنية حقيقية.
إن دعوتنا اليوم هي لكل القوى الوطنية الصادقة، ولكل أبناء سورية المؤمنين بالمدنية والديمقراطية أن نُقدّم واجب الوطن على حق دمل الجراح، والنظر للمستقبل على أن نحفر في الأحقاد، وأن نجعل العقل إماماً بدل أن تحكمنا الغرائز.
د. زاهر بعدراني
مكتب الرئاسة
مقال
تيار المستقبل السوري