الإنسان منذ الأزل يبحث عن وسيلة تصله بالآخرين، يشد بها أواصر القربى، ويبعث برسائله إلى من يحب، ويحفظ بها ذاكرة الأيام. وعندما جاءت وسائل التواصل الاجتماعي، ظن الجميع أنها اليد التي ستقرب المسافات، والجسر الذي سيصل المشاعر والذكريات بين القلوب. لكنها كأي سيف ذي حدين، لم تكن مجرد وسيلة تواصل، بل أضحت ساحة كبرى تتصارع فيها القيم، وتختلط فيها المفاهيم، حتى بات الإنسان أكثر وحدة، رغم أنه محاط بآلاف الوجوه.
فلم يعد اللقاء وجهاً لوجه شرطًا لصداقة تبنى، ولم تعد المشاعر الإنسانية تحتاج إلى لغة العيون ونبرة الصوت، فالآن يكفي “إعجاب” أو “تعليق” ليشعر المرء أنه موجود، وأنه ليس وحيدًا. لكن هل هذا يكفي حقًا؟
لقد أصبحت علاقاتنا عبارة عن محادثات إلكترونية، مليئة بالكلمات الفارغة والرموز الباردة، لا دفء فيها ولا روح. أصبح اللقاء بين الأحبة مجرد صورة مشتركة، والضحكة ليست سوى وجه تعبيري يضحك، والمشاعر تقاس بعدد التفاعلات، لا بصدق الأحاسيس. إننا نعيش في زمن تُشبعنا فيه المحادثات السريعة، لكننا في العمق جائعون للحديث الطويل، للحوار العميق، لتبادل المشاعر والأحاسيس بدلا من تبادل الكلمات ،للجلوس مع الأصدقاء والأقارب وجهًا لوجه دون وساطة شاشة باردة.
في عصر السوشيال ميديا، تحولنا إلى كسالى في التواصل مع الآخرين وكسالى في التعبير عن مشاعرنا، وفي القيام بالواجبات العائلية والاجتماعية، فلم يعد التواصل كما كان في الماضي من خلال اللقاءات الشخصية والزيارات العائلية أو حتى المكالمات الهاتفية الطويله ، بل أصبح العالم الافتراضي هو المساحة التي تجمعنا، من مجموعات العائلة على واتساب، إلى الأصدقاء على فيسبوك وإنستجرام، وصولًا إلى العلاقات العاطفية التي تبدأ وتنتهي خلف الشاشات. ولكن، هل قربتنا هذه التقنيات حقًا؟ أم أنها خلقت وهمًا بالتواصل بيننا ! ونحن في الحقيقة نبتعد أكثر.
علي سبيل المثال العلاقات الأسرية التي فقدت دفئها مع انتشار الهواتف الذكية، باتت البيوت مليئة بأشخاص يجلسون في المكان نفسه، لكنهم يعيشون في عوالم منفصلة.
في الماضي، كان البيت ملتقى الأرواح، حيث يجتمع الأفراد حول مائدة واحدة، لا تفرقهم سوى ضحكاتهم التي تملأ المكان، وحكاياتهم التي لا تنتهي. أما اليوم، فكل فرد في العائلة يجلس منعزلًا، عيونه معلقة بالشاشة، وأذنه مشغولة بسماع أصوات بعيدة، بينما من بجانبه يُعامل كأنه غريب.
لقد سلبتنا السوشيال ميديا أبسط معاني الحميمية، سرقت لحظات الدفء العائلي، واستبدلتها بصمت ثقيل لا يكسره سوى إشعارات هاتفية ورسائل إلكترونية. أصبح الأخ لا يعرف أخبار أخته إلا عبر “المنشورات”، والأب لا يعرف ما يمر به ابنه إلا من خلال منشوراته الحزينة.
تشير دراسات إلى أن متوسط الوقت الذي يقضيه الأفراد على هواتفهم يوميًا يصل إلى 6-7 ساعات، مما يؤثرعلى التفاعل الحقيقي داخل الأسرة.
ولم تعد الصداقات والعلاقات العاطفية كما كانت، فاليوم يمكن لشخصين أن يقعوا في الحب دون أن يلتقيا أبدًا. ورغم أن البعض يجد في هذه الوسائل فرصة للتعارف، إلا أن الكثير من هذه العلاقات تنهار بسبب سوء الفهم الناتج عن التواصل الافتراضي الذي يفتقد إلى الوجود الواقعي وتبادل مشاعر حقيقية بل اصبح من الشائع أن تنتهي علاقات حقيقية بسبب
“لايك” أو تعليق.
كذلك أصبحت العلاقات والصداقات في العصر الرقمي عبارة عن تواصل بلا لقاءات،
فرغم أن السوشيال ميديا سهّلت التواصل بين الأصدقاء، إلا أنها آصبحت علاقات سطحية يصيبها الجمود معظم الأحيان والعلاقات الحقيقية تراجعت. أصبح من المعتاد أن نعرف أخبار أصدقائنا من منشوراتهم، بدلًا من أن نسمعها منهم مباشرة، وتحولت اللقاءات إلى إشعارات ورسائل سريعة،أصبح العزاء يقدم بتعليق والتهاني بزواج أو مولود جديد يقتصر على"إيموجي” والواجبات الاجتماعية تختصر في منشور عام ، فهل أصبحنا أقرب أم نعيش في عزلة بالمجاملات الرقمية ؟
فبعد أن كانت المناسبات الاجتماعية مثل الأفراح والعزاءات فرصة ليلتقي الناس وجها لوجه، اليوم أصبحنا نكتفي برساله "مبروك" أو "البقاء لله" بدلا من الحضور الفعلي، حفلات الخطوبة والزواج تبث عبر "لايف" على فيسبوك لمن لا يستطع الحضور وكأن المشاهدة تغنى عن الوجود الفعلي .
حتى العزاء الذي كان يقاس فيه مقدار الترابط الاجتماعي ، أصبح يختصر في منشور وتعليقات قصيرة لا تحمل الدفء الحقيقي.
أعياد الميلاد التي كانت مناسبة للقاء العائلة والأصدقاء تحولت إلى قائمة طويلة من التهاني في منشور أو "استوري" دون مكالمة هاتفية أو زيارة شخصية .لكن هل هذه البدائل كافية؟ أم أنها مجرد مسكنات تضعف مناعة الروابط الأجتماعية دون أن نشعر!؟
البعض يرى أن التكنولوجيا سهّلت التعارف والتواصل ، وقد يكون هذا صحيحا خاصة للمغتربين عن بلادهم، لكنها في الوقت نفسه جعلت العلاقات أكثر سطحية وسريعة الانتهاء. وأصبح الانفصال يتم بضغطة زر: “حظر” أو “إلغاء متابعة”، دون حتى كلمة وداع.
فهل هذه العلاقات قادرة على الصمود؟ أم أن السوشيال ميديا جعلت المشاعر أقرب إلى المحتوى الاستهلاكي.
كذلك كانت القيم يومًا ما تُنقل من الأجداد إلى الآباء، ومن الآباء إلى الأبناء، كمبادئ مقدسة تحفظ المجتمعات من التشتت والضياع. أما اليوم، فقد أصبحت القيم والمبادئ سلعة تُباع وتُشترى، تحددها “الترندات” وتُغيرها الموضات الرقمية.
باتت الشهرة غاية، والهدف هو جمع أكبر عدد من المتابعين، حتى لو كان الثمن التخلي عن الصدق أو المجاملة الزائفة أو حتى بيع الخصوصية في مزاد العلنية. أصبح الصواب والخطأ أمرًا نسبيًا، يتشكل وفق ما تمليه المنصات، لا وفق المبادئ الراسخة التي نشأنا عليها.
لا يمكن إنكار فوائد السوشيال ميديا، لكنها يجب أن تكون وسيلة لتعزيز العلاقات، لا بديلًا عنها. ربما علينا إعادة التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي، والتأكد من أن علاقاتنا لا تُدار فقط عبر الشاشات، بل تُبنى على لقاءات حقيقية ومشاعر صادقة!
هل يمكن بالفعل استعادة التوازن؟
ربما ليس الحل في التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن في إعادة تعريف دورها في حياتنا. ألا نسمح لها بأن تتحول إلى بديل عن المشاعر الحقيقية، بل أن نجعلها وسيلة تعزز تواصلنا الحقيقي، لا أن تحل محله. يجب أن نعترف جميعا أن السوشيال ميديا لم تقربنا حقًا، بل جعلتنا أقرب إلى العزلة، وجعلت أرواحنا تتيه في بحر من العلاقات السطحية والمفاهيم المختلطة. نحن بحاجة إلى أن نتذكر أن الإنسان لا يُقاس بعدد متابعيه، بل بعمق علاقاته، وأن المشاعر الحقيقية لا تُختصر في “إعجاب” أو “تعليق”، بل في لمسة يد، ونظرة عين، وحوار صادق يعيد للإنسان دفء اللقاء.
علينا أن نتعلم كيف نستخدمها دون أن تبتلع وقتنا، حتى نبقى قريبين من أحبائنا لا من خلال الشاشات، طالما قادرين علي التواصل الواقعي ولا تفصلنا عنهم مسافات وقارات ،ونستطيع تجديد لقاءاتنا وضحكاتنا وذكرياتنا التي لا تحتاج إلى توثيق إلكتروني، بل إلى قلب يشعر، وروح تتصل دون حاجة إلى “واي فاي”.