بتاريخ 21/11/2024, أصدرت محكمة الجنايات الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بحق المدنيين في قطاع غزة وأقله منذ صبيحة 8/تشرين الأول 2023.
بالتأكيد هو قرارٌ مفاجئ وصادم للكيان الإسرائيلي بكليته, وهو الذي يعتبر نفسه المتفوق حضارياً وإنسانياً وبأنه "الديمقراطية" الأولى في العالم, لكونه حدثاً غير مسبوق وقراراً ملزماً للدول الأعضاء بمن فيهم حلفاء وأصدقاء "إسرائيل", بالإضافة إلى أنه يُتخذ بحق قادة ومجرمون إسرائيليون إعتادوا أن يكونوا وكيانهم فوق القانون الدولي والإنساني والأخلاقي, وبأنه الكيان الذي لا يمكن محاسبته والحد من قدرته على إفلات من العقاب الدولي, ومن جهةٍ أخرى يعتبر القرار بمثابة إنتصار للعدالة والقانون الدوليين ومحاولة لإنصاف المظلومين والضحايا الفلسطينيين بشكلٍ مباشر, واللبنانيين أيضاً, سواء وصل في نهاية المطاف إلى إدانة ومحاسبة هؤلاء المجرمين أم لا .
على الرغم من تشكيك البعض بإمكانية السير بعيداً عن نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها على كافة المنظمات والهيئات الدولية والأممية, بما فيها محكمة الجنايات الدولية, فهل سيكون العالم على موعد مع إدانة نتنياهو وغالانت, وإفلات عشرات الساسة والقادة العسكريين وأعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي, وهيئة الأركان, والإستخبارات والشاباك وحتى الرئيس الإسرائيلي؟, وهل ستفلت من العقاب كل من إدارة بايدن وكافة الدول التي قدمت للكيان الإسرائيلي الدعم العسكري والإستخباري والمالي والإقتصادي والغطاء السياسي والإعلامي منذ صبيحة 8/تشرين الأول 2023, بما جعلها شريكة في العدوان وبجرائم الحرب وجرائم الحصار والتجويع ضد المدنيين الأبرياء في قطاع غزة.
في وقتٍ بات العالم كله يدرك أن العدوان على غزة هو مشروع أمريكي – إسرائيلي خبيث مشترك يطال كافة دول المنطقة وليس غزة فقط , وضعت خططه وأجنداته الولايات المتحدة بشكلٍ مسبق, وأمسكت دفة القيادة منذ اليوم الأول, وشاركت في يوميات العدوان وبجميع الجرائم التي ارتكبتها قوات الكيان الإسرائيلي, وخاضت كذلك كافة المعارك السياسية, ولعبت دور الدولة الوسيط في المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية ومع الدولة اللبنانية أيضاً, وتحكمت برقبة نتنياهو, ورفضت وقف العدوان تحت أي سبب ومبرر إسرائيلي داخلي, ولم تتوان قبل بضعة أيام عن استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن, وأجهضت مشروع قرارٍ أممي لوقف العدوان بشكلٍ فوري وبإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع على وجه السرعة..
في وقتٍ لا يمكن فيه تجاهل الفشل في تحقيق أياً من الأهداف الأمريكية والإسرائيلية والغربية في الميدان, وبدأت تتضح وتتأكد معالم الهزيمة العسكرية رغم منح حكومة نتنياهو 14 شهراً حتى اليوم , لكنه لم يجن سوى الهزيمة رغم وحشية المجازر والإبادة الجماعية والقتل والدمار الرهيب وكافة ممارساته بحق البشر والحجر, وأوصل نفسه وكيانه وإدارة جو بايدن ومشاريعها إلى الحائط المسدود.
لا يمكن استبعاد أن تقوم الولايات المتحدة بالتخلص منه على غرار عشرات الأدوات التي تخلصت منها غبر تاريخها, خصوصاً بعدما أصبح بقاؤه في منصبه مكلفاً لها سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً وإعلامياً، والأهم قانونياً، أمام قرار محكمة الجنايات الدولية اليوم ومجلس الأمن لاحقاً، ويحمل من الخطورة ما يكفي لإثبات تورطها وإدانتها جراء مشاركتها الفعلية بجرائم الحرب إلى جانب قوات نتنياهو ووزير حربه في غزة ولبنان وسورية واليمن والعراق وإيران, وبتوقيعها على لوائح الاغتيالات الطويلة القديمة منها والحديثة التي طالت االعشرات من قادة المقاومة، وقادة وضباط وعسكريين سوريين، ورموز ومستشارين عسكريين ومدنيين وعلماء إيرانيين وعراقيين، ناهيك عن تورطها بإغتيال شخصياتٍ سياسية، ومستشارين إعلاميين رسميين وصحافيين ومراسلين ورجال اقتصاد.
وبدا واضحاً بأنها منذ بداية العدوان على غزة وحتى على لبنان, بأنها تخطط للتخلص من نتنياهو في حال فشله, ودأبت على تكرار انتقاده وسيره "بعكس مصلحة الكيان الإسرائيلي"، بعدما استخدمته ككلب مسعور لارتكاب المجازر والاغتيالات وفي كل ما من شأنه خدمة مصالحها ومخططاتها، وما تبقّى سيكون تحميله مسؤولية كل الإجرام والمجازر والاغتيالات التي ارتكباها معاً ومسؤولية التصعيد الخطير في المنطقة والعالم.
وبالرغم من أن قرار محكمة الجنايات الدولية بحق المجرمين نتنياهو وغالانت يحمل قيمة قانونية وأخلاقية, لكنه يحمل من الغموض وما يثير الشكوك بحصره الإتهام بهما فقط, كذلك حول خلفيات القرار ومن يستطيع استخدامه لصالحه, فبالأمس وعبر الفيتو منعت إدارة بايدن الديمقراطي وقف العدوان الإسرائيلي على غزة, ناهيك عن استغلال تحركات ومناورات الموفد اّموس هوكستين في منع وتخريب جهود التوصل إلى الإتفاق مع الدولة اللبنانية على وقف العدوان على لبنان, على الرغم من عديد الإشارات الدولية والإسرائيلية الداخلية التي اعتبرت أن نتنياهو بات قريباً من الموافقة, وسط الإتصال الهاتفي الذي تلقاه هوكستين من الرئيس الجمهوري ترامب, وهو الذي أوضح للمجرم نتنياهو رغبته بإنهاء الحرب قبل تنصيبه رئيساً ..
وعلى الرغم من رفض إدارة الرئيس جو بايدن قرار المحكمة الجنائية الدولية "بشكلٍ جوهري", لكن الواقع يشي بوقوع نتنياهو ما بين إدارة بايدن الديمقراطي وإدارة ترامب الجمهوري, في حين أنه نتنياهو أصبح منتهياً تحت كافة العناوين, وباتت إقالته ومحاسبته وإبعاده عن المشهد أمراً لا يحمل أية مفاجئة بالنسبة لكلا الإدارتين, أما بالنسبة لـ غالانت فمن الواضح أنه يُعاقب ويُبعد من قبل إدارة ترامب خصوصاً وأنه يعتبر رجل إدارة بايدن في تل أبيب.
أمورٌ بمجملها تقودنا إلى الإعتقاد والإستنتاج, أنه من الوارد والمحتمل أن تكون إدارة ترامب قد دعمت وشجعت سراً صدور قرار محكمة الجنايات الدولية, وأقله لم تحاول منعه, لإجبار نتنياهو على إنهاء العدوان في الموعد الذي أراده ترامب, ومع ذلك يبقى الأمر الأهم بالنسبة لإدارة ترامب هو إستخدام القرار بحق نتنياهو وغالانت في محاصرة بعض أعداء للولايات المتحدة الذين صدرت بحقهم مذكرات إعتقال وعلى رأسهم الرئيس فلاديمير بوتين.
ويعزز هذا المنطق سرعة إطلاق دول الإتحاد الأوروبي تأييدها ودعمها وإلتزامها بإعتقال بنيامين نتنياهو, وهم ذاتهم الذين قدموا له الدعم بالمال والسلاح والتغطية الإعلامية والسياسية من خلال مواقفهم ودعمهم لـ "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها ".
وعليه قد يكون القرار ومفاعيله الإعلامية والتصريحات السياسية المتزامنة مع صدوره, هي جزءاً من مسرحية خبيثة تقودها الولايات المتحدة وتحديداً إدارة الرئيس القادم دونالد ترامب, الذي يرى بأم عينه كيف تسعى إدارة بايدن لتوريثه أخطر الملفات بعد مضاعفة صعوبتها ودرجات تعقيدها, وهذا ينسحب أيضاًعلى ملفات حرب الناتو الأوكرانية على روسيا, وعلى توريطه بمواجهاتٍ معقدة مع كوريا الشمالية, والصين, وإيران على مستوى استهدافها عسكرياً, أوالتوصل معها إلى إتفاق جديد حيال ملفها النووي, كذلك بنسف مخططات دونالد ترامب في استكمال التطبيع والصفقات واحتمالية تحقيق السلام "المزعوم" في الشرق الأوسط على يد دونالد ترامب, وبحرمانه من حلم الفوز بجائزة نوبل للسلام.