-رأيت البارحة في المنام أني أتجوّل في بلاد الشام في مدن جميلة زاهية ما رأيت مثلها أبدا في حياتي من قبل ( أنا الرحّالة الئئ زار الكثير من مدن العالم في الشرق والغرب )،وكانت تلك المدُن ذات شوارع واسعة وقصور شاهقة مغلّفةٌٌ جدرانُها بالآجر الرقيق الأرجواني وأخرى مغلفة بالمرمر الصلب الأبيض والمزخرف هو أيضا بالأقحواني بمختلف ألوانه ، والأشجار والنباتات المزهرة تحفّ بها من كل جانب وكأنما هي جنة عدن قد ظهرت فجأة على هذه الأرض الطيبة بعد كل ذلك الخراب والدمار الذي ابتُليت به في المدة الأخيرة . تُرى من أين لي بهذه الرؤيا الجميلة ؟ لا بد أنها من صنع مخيلتي الراغبة منذ مدة في رؤية بلاد الشام على هذه الحالة ،أوليس الخيال مبدعا في النوم كما هو مبدع في اليقظة؟
-لكن الكثير من الناس يعتقدون في أن الله يتواصل معهم بواسطة الحلم ويشيرُ عليهم بما سيقع لهم أو بما يجب أن يقوموا به أو بما هو مقدر لهم في الحاضر أوفي المستقبل ( وهذا ما وقع بالفعل لإبراهيم الخليل المعروف بجدّ الأنبياء والرسل ) فهل صحيح أن الله يمكن أن يكون في حوار مع البشر أم ذلك مجرد حلم نحاول به في اليقظة تفسير حلمنا في المنام ؟ أم أنه مجرد اعتقاد قائم على وهم من المعرفة بما يمكن أن نرجوه من الله من الرغبات والمطالب ولا يقوم على أي دليل أو حجة من الدين أو من المنطق ؟.
إنما الحلم هو شيء من مخزون اللاوعي الضارب بجذوره في القدم والمتصل باللاوعي العام للبشرية يظهر أحيانا على سطح الوعي الفردي أو على سطح الوعي الجماعي غير منظم ولا منتظم فيصعبُ بالتالي فهمُه وتفسيرُه كما ينبغي ويحدث هذا الحلم عادة في غياب ( الأنا ) الحارس في حالة نومه أوفي حالة غفلته وهو المعروف بالمراقب في حالة اليقظة وهو ثالث الثلاثة في المنظومة النفسية في نظرية التحليل النفسي عند سيقموند فرويد و(آدلر ويونغ من زملائه )،(الأنا) و( الهو ) و(الأنا الأعلى ) المتفاعلة بعضها مع بعض والمتبادلة التأثير في ما بينها على الدوام والحارس ( الأنا ) هذا في الشخصيّة الفردية كما هو الوعي الثاقب في الشخصية الاجتماعية كثيرا ما ينام أو يقع في غفلة من أمره فيفسح المجال للتفاعل الحرّ بين اللّاوعي بحاجاته الكثيرة ورغباته وآماله وطموحاته ومشاكله وأزماته ومكبوتاته ونجاحاته وفشله ...إلى آخره ، والأنا الأعلى بأوامره ونواهيه وحرامه وحلاله وتسلطه وتجبّره ( أحيانا) و ما يجوز وما لا يجوز إلى آخره ... فينتج عن ذلك الكثيرُ من الوضعيات والحالات الخاصة عند الفرد أو في المجتمع .
الحلم إذن لا علاقة له بالحاضر ولا بالمستقبل ولا بالخير ولا بالشر ولا بإردة الله إلا ما خُزّن منها في لاوعي صاحبه ضمن إيمانه ومعتقده ، إنما هو رهن بالماضي ولا يُفسّر إلا به . يقول فرويد:" إنه تحقيق رغبة " لم يستطع المرء تحقيقها في الواقع وهذ ا كلّ ما في الأمر . وإضافة إلى ذلك أنه إذا ما فكر المرء في أشياء يتوقع حدوثها في المستقبل تفسيرا لحلمه فذلك من صنع النفس الحالمة وبدافع الرغبات والحاجات التي ينتظر المرء دائما تلبيتها في الواقع ( كما حدث لي أنا في حلمي ببلاد الشام منذ مدة ) .
والحلم نوعان من الناحية المبدئية : حلم في النوم وحلم في اليقظة وهذا الأخير هو وحده الذي قد تكون له علاقة ما بالمستقبل من حيث أن المرء يحلم أحيانا بما يطمح في تحقيقه في المستقبل ومن هنا يمكن التفكير في نوع من المقاربة بين التفسير الديني للحلم المعروف ب ( تعبير الرؤيا ) والتفسير العلمي المتعارف عليه في التحليل النفسي أو في غيره من التفاسير ، لأن رجل الدين يُفسر حتى الحلم في المنام بما يرغب في تحقيقه في الحاضر أو في المستقبل وينسب ذلك لإرادة الله في تسيير أمور خلقه ( في اعتقاده ) وليس علينا أن نذهب بعيدا فإن أسماء الله الحسنى كلها ما هي إلا صفات بشرية يحلم المرء دائما بتحقيقها كاملة أو على الأقل رؤيتها موجودة ومجسمة في الإنسانية قاطبة ويُسقطها على الله الذي يعتقد في وجوده مستقلا وخارجا عن هذا الوجود فهو الحي القيوم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الرحمان الرحيم والقادر الكريم إلى آخر الأسماء " الصفات " التي يفكر الناس فيها دائما ويطمحون في تحقيقها بالفعل في حياتهم دائما وإن الله بمعنى من المعاني هو حلم يرغب الناس دائما في تحقيقه في الشخص المثل والقدوة ( الله بالوكالة) ولذلك وضعوا فيه كل تلك الصفات المطلوبة التي يصعب على المرء تحقيقها كاملة في حياته .
جاء في قصة الحضارة ل ولٌ ديورانت : إن أحد المسيحيين من الهنود القدامى واسمه ( راما كرشتا ) كان يقول : "إن كل الأنهار تندفق نحو المحيط فاندفق أنت حتى تخلّي الطريق لاندفاق الآخرين من بعدك " (1) وكان يقبل بصدر رحب عقيدة الناس في آلهة مختلفة أما عقيدته هو التي ينبض بها قلبه فهي أن الله روح تجسد في الناس جميعا وعبادة الله الحقيقية التي لا عبادة سواها هي خدمة الإنسانية خدمة صادقة صادرة عن حب . و يقول " نارن " أحد أتباعه المقربين :"إن الحقيقة السامية التي لا حقيقة بعدها هي هذه: الله موجود في الكائنات جميعا و هذه الكائنات صورُه الكثيرة و ليس وراءها إلاهٌ آخر يبحث الإنسان عنه، وليس هناك سبيل إلى خدمة الله سوى خدمة سائر الكائنات"(1) و هذا ما يجب اليوم أن تنتبه إليه الإنسانية قاطبة و تعملُ على توحيد نفسها في نسق واحد ولغة واحدة إن أمكن تلتقي حولهما دائما وتعيش هكذا متضامنة متعاونة .
ولتأكيد ما صار واضحا الآن لا بأس أن نذكر ما قاله الأستاذ نهاد خياطة في مقدمته لكتاب كارل يونغ (2 ): " نتيجة لفردية " الخافية "( اللاشعور في لغته اللاحقة ) ونشوئها عن " الواعية " ( الأنا في لغته اللاحقة أيضا )عند فرويد كانت الأحلام عنده ليست أكثر من وسيلة يُحقق بها الإنسان نائما ما لا يستطيع تحقيقه يقظان " أما يُونغ فالحلم عنده بويّب خفي في تجاويف النفس أعمقها غورا وأخفاها سرا مفتوح على ذلك الليل الكوني من النفس قبل أن يكون ثمة إنّية واعية بزمن بعيد ...
ويقول : من هذه الأعماق الجامعة للكل ينشأ الحلم لا شيء أكثر منه طفولية ولا شيء أكثر منه غرابة ولا شيء أقل منه خلُقا" . (3)
وهكذا فكما يبدو لنا وللقارئ معنا أن النفس في تفاعلها مع مخزونها الضارب في الأزل أو كما يقول يونغ نفسه :المتواجد في كهف الخافية ومع العالم الخارجي تصنع نوعا من أحلام اليقظة لتتقدم في هذه الحياة كما ينبغي لها أن تتقدم وتُلبي حاجاتها من الطبيعة وهكذا صنع الإنسان السيارة وركبها وهكذا صنع الطائرة وطار بها بعد أن ظل يحلم بهما المئات من السنين الماضية وكذلك فعل بالدراجة والراديو والتلفزة وبقية المخترعات التي حققها إلى حد هذه الساعة .
هذا ولابد في النهاية من الإشارة إلى أن هناك نوعا آخر من الحلم أكّده العلماءٌ في المدة الأخيرة يُسمّى الحلم النُّعاسي والذي لا هو في النوم ولا هو في اليقظة وإنما هو في زمن استثنائي يعيشُ به المرءُ الفردُ أو المجتمعُ في غفلة من أمره لا هو في تمام الوعي بنفسه ولا هو فاقد له بكامله مثلما هو حالنا اليوم أفرادا وجماعات في البلاد العربية بفعل ما حدث لنا أخيرا بما يُسمي عادة ب " الربيع العربي " والذي ما هو في الحقيقة إلا صيف حارق أوجحيم إلى العرب يكاد لا ينتهي ...
والمفروض أو بالأحرى المتوقّع هو أن يكون المرء الفردُ أو المجتمعُ ( في هذا الحلم النعاسي ) أقرب ما يكون تفكيرُه في صميم الواقع والأقرب ما يكون إلى الحقيقة لأنه في حالة قصوى من التأمل ولأنه خارج عن تأثير النوم العميق وخارج في نفس الوقت عن تأثير اليقظة بما فيها من علاقات بالواقع الكبير .
أبو أنيس اللطيف بن سالم