الشهداء يرحلون جسدا ويحيون فكرا: يستحضروني هنا رواية (الشهداء يعودون هذا الأسبوع) للكاتب والروائي الجزائري "الطاهر وطار" والتي لابد وأن البعض منا قد قرأها والجزء الآخر منا ربما سمع بها ولم يُسعفه الوقت للتعرف على ماهيتها تقوم فكرتها على واقعية خيال تُحاكي قصة الإصرار على العودة للحياة بأثر رجعي، وهي فكرة تبدو جميلة ومستحيلة لمن آمنوا بالشهداء وشاركوهم المقاومة ولكن كلنا يدري أن الجزائر قد قدمت مليون شهيد في ثورة التحرير ضد الاحتلال وكان عدد سكانها أساسا لا يتعدى ستة ملايين في تلك الفترة وقد استمر الاحتلال الفرنسي في الجزائر قُرابة قرن و32 سنة ميلادية (1830- 1962)، وهنا سأسقط الفكرة على فلسطين المحتلة والتي قدمت عشرات آلاف الشهداء وربما مئات الآلاف وما زالت منذ أن وطأت الحركة الصهيونية وعصاباتها أرض فلسطين التاريخية التي احتلت فلسطين ووضعتها تحت الانتداب البريطاني بعدما نخر الخلاف جسد الدولة العثمانية وأطاح بها وبتسهيل ومساعدة كبيرة من بريطانيا العظمى سواء بالسماح لليهود بالهجرة 1948 وما قبلها أو من خلال وعد بلفور 1917، ففي فلسطين المحتلة ومنذ أن وقعت تحت الانتداب البريطاني الذي جعل منها فريسة للعصابات الصهيونية كان هناك العديد من القادة المفكرون والأدباء والذين حاربوا الاحتلال كل بطريقته التي أتقن الأعمال الأدبية والفنية الثورية أو عبر فكر يصلح لكل زمان ومكان وفي السيرة النبوية عُرف عن النبي "محمد" أنه قد دعا الشعراء إلى الدفاع عن الدعوة وقد عبر الشعراء عن النصر والهزيمة وسجلوا ذلك للأجيال المتعاقبة.
يُطلق جميعنا كلمة (شهيد) على القتيل غير أن الكثير يمر عليها مرور الكرام ولا يحاول أن يتعرف عليها ولا على دلالاتها الحية في الواقع العملي فما هي الشهادة؟ ومن هو الشهيد؟ ولماذا أُطلِق عليه هذا الوصف؟ وهل معناه الحاضر للمشهد أو المؤدي للشهادة؟ وهل ذلك في الدنيا أم في الآخرة؟ وهل تُفتح للشهيد قنوات التعرف والحضور من مقامه الكريم إلى واقعه الذي استُشهِد فيه؟ هذا وغيره ما ستحاول هذه المقالة الإجابةَ عليه، وبهذا يتبين أن (شهداء) في قوله الله: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)آل عمران:140، هم شهداء المسؤولية وشهداء الموقف الحق والحضور الفاعل الذين قتِلوا في سبيل قضيتهم العادلة بدلالة اتخاذ الله لهم واختياره إياهم وكونها جاءت في سياق ذكر الآلام والعناء الذي طال المسلمين في غزوة أحد وفتحِ آفاق الآمال لديهم بعد تلك الوقعة الأليمة، فالشهادة معراج الناس العاديين إلى سماوات الفضل وهي منهاج البسطاء من الناس الذي يصل بهم إلى جوار الله رب السماوات والأرض وإن فضل الله ونعمته اللذين يستبشِر بهما الشهداء هو أن الله هيّأ للناس العاديين هذا الطريقَ الذي يصل بهم إلى مقامات عالية تُشبِه مقامات الأنبياء والصديقين، والجهاد هو أسرع الطرقِ الموصلة إلى تلك المقامات العظيمة عند الله.
إن الشهداء دوما هم أيقونة وعنوان كل نصر أو معركة يرحل بعضهم جسدا ويبقى فكرا وفي ذلك قال الشيخ "عبد الله عزام "(إن كلماتنا ستبقى ميتة لا حراك فيها هامدة أعراسا من الشموع، فإذا متنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء، كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات) وقد ورثنا عن أجدادنا مقولة ("اللي خلف ما مات) وهذه أيضا سأضعها في غير مكانها التي قيلت فيه فالشهيد المفكر لا يرحل لأنه يترك أثرا يُحدث عنه طيلة الوقت بعد رحيله شهيدا إلى الحياة الأخرى تبقى كلمات الشهداء حاضرة في أذهاننا من بعد مواقف لهم تركت أثرا طيبا، وقد تناقلت عائلات الشهداء ورفاقهم كلماتهم ورسوماتهم تلك حتى وصلت لنا اليوم وقد بثت من جديد روح الاستشهاد، الشهادة والشهيد في حياتنا لا سيما في ظل ما نمر به اليوم من هجمة صهيونية على القدس لتهويدها وقطاع غزة لتركيعه والضفة الغربية لمزيد من التكبيل لذلك لا يرحل الشهداء المفكرون ويعيش من بعدهم الوطن على فكرهم وما أنتجوا كيف لا وهم من خطوا بفكرهم ودمائهم خارطة الطريق للتحرير والمضي قُدما نحو حياة تخلو من احتلال أو تبعية.
إن حمل ثقافة الشهادة والمرابطة على طريقها وتكريم الشهداء والحفاوة والاقتداء بهم هو السبيل لعزة الأمم والشعوب وكرامتها وتقدمها ورخائها في الحياة وأن الفقر في ثقافة الشهادة والتخلي عن المرابطة على طريقها يورث الأمم والشعوب الوهن والضعف والتخلف والذل والصغار في الحياة، فحيثما وجد شهيد فهذا يعني وجود قتلة مجرمون ظلمة لا يعرفون التاريخ ولا يعرفون القيم الإنسانية النبيلة، وحيثما وجد شهيد فهذا يعني وجود قضية جوهرية عادلة تستحق التضحية والشهادة في سبيل نجاحها وانتصارها، ويعني هذا وجود أناس شرفاء مضحون تغلبوا على شهواتهم وجاذبية الدنيا وزخارفها الفانية واشتغلوا بالهموم والقضايا الكبيرة للأمة وزادهم في طريقهم التقوى قد حلقت أرواحهم الزكية الطاهرة في سماء القيم والمبادئ السامية الرفيعة وسمت لرؤية الملكوت الأعلى، فالشهادة الحقيقية ليست وليدة صدفة كأن يخر الشهيد صريعا بغير إرادته ضحية لموقف غادر لأحد المجرمين هنا أو هناك وإنما هي اختيار أكيد ومنهج حياة مبنيين على فلسفة ويقين ورؤية محددة للأمور فالشهيد قبل أن يُصرع هو مشروع شهادة حي يتحرك نحو مصرعه بصبر ومثابرة وحيوية وقوة وفاعلية وهو يحمل معه ناره ونوره وعطره وعبقه ويسير نحو الشهادة بإرادة كاملة وبتنظيم دقيق وبخطى ثابتة لا تزحزحه الإغراءات ولا التهديدات، لذلك فالشهيد وإن مات على فراشه حتف أنفه فالشهادة تعتبر دليلا على مدى إيمان الشهيد بعدالة قضيته التي استشهد من أجلها وعلى قيمتها الكبرى وأهميتها العظمى لديه، وهي شاهد إدانة لقوى الباطل والظلم والرذيلة والظلام والاستبداد والاستكبار والانحراف والتخلف أمام محكمة العدل الإلهي والتأريخ، وهي النور الكاشف عن جريمتها العظمى ضد الإنسانية، وهي العنصر من الكيمياء الإنسانية الذي يزيل مساحيق التجميل عن الوجه القبيح لتلك القوى الشيطانية وفضحها أمام التاريخ لتكون عبرة لكل معتبر من الحكام وأصحاب السلطة والنفوذ، وهي الأداة الأقوى لهدم الكيان الشيطاني لتلك القوى والنار الأشد فتكا بجسدها الظلامي القبيح.
عبد الإله شفيشو/فاس