كتب/ ابو أنيس عبد اللطيف بن سالم: عمار بلقاسم سقراط زمانه.. قراءة في شخصية مهاجر تونسي

تأكيدا لما كنت رأيته وعبرت عنه منذ مدة في أكثر من مناسبة ثقافية سابقة من أن الظروف المناخية والظروف الاجتماعية لها تأثير مباشر وأكيد على مزاج الشخص ونفسيته ونوعية تفكيره قمت بهذه القراءة المتواضعة الخاصة بهذه الشخصية المتميزة :

لم يكن سقراط اليوناني المعروف عادة بأب الفلاسفة يكتبُ ما كان يفكر فيه أو ما كان يتحاور به مع أصحابه ومرافقيه ومريديه ممن عُرف منهم بالخصوص بالسفسطائيين ولكنّ تلاميذه المُعجبين به حقا والذين كانوا يفكرون معه ويناقشونه في مختلف المسائل الفلسفية والاجتماعية والسياسية العميقة بكامل الجدية كان أغلبهم ممن كانوا يكتبون ويسجّلون وكان منهم بالخصوص أرسطو طاليس وأفلاطون وغيرهما العديد من المفكرين الذين قد ملأوا الدنيا منذ ذلك الوقت وشغلوا الناس بأفكارهم وآرائهم  شرقا وغربا لعدة قرون بعد ذلك العصر المعروف بالعصر اليوناني الشهير وازدهرت  بهم ثقافات وتكونت حضارات . 
كذلك كان صاحبنا هذا عمار بلقاسم الذي قد قضى مدة عمله كلها يدرّس ويناقش القضايا الفكرية والحضارية والأدبية مع طلابه وجُلاسه في ما بين تونس والسويد  بكل عمق ودراية وبُعد نظر و لم يكن يكتب عن ذلك شيئا أبدا ، وكان في ذلك كله محاولا أن يصون للفلسفة كرامتها وأهمية دورها في حياتنا ويحترم في الناس معتقداتهم أيضا مهما كان نوعها ، فماذا كانت النتيجة من هذا الموقف الذي يبدو وكأنما هو لزوم ما لا يلزم في حياة صاحبنا؟ 
 كانت النتيجة من كل ذلك أن اشتدت الحيرة عند الأستاذ عمار في الأخير وصعب عليه الاستمرار في التوفيق بين ما كان يراه ويعيشه في العالم الغربي في البلاد الاسكندينافية منه بالخصوص وبين ما كان يراه ويعيشه في وطنه الأصلي تونس من الشمال الإفريقي الذي لا يزالُ أغلب مواطنيه يرزحون تحت أعباء ووطأة تراث متراكم على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمن دون تفكير كاف أو تدبّر فيه  أو أية رغبة في التحرر منه أو تغييره إلا لدى البعض من النابهين والمتطورين الأمر الذي كاد يصنع فيهم عقلية شبه متحجرة إلى الأبد مع ما ينضاف إلى ذلك من السلوكيات الغريبة الناتجة عن تلك العقلية ولا ضرورة هنا إلى الحديث عما يوجد بسبب ذلك من الفوارق الحضارية العديدة في مختلف المجالات في النظافة والتنظيم والإدارة والمعاملات المختلفة في ما بين المجتمعات الغربية منها والشرقية ( ومن ضمنها أيضا المجتمعات المغاربية أو الشمال – إفريقية  ) التي كان صاحبنا يعيش حياته في ما بينهما بالضرورة لأن له من الأصول في بلاده وله من الفروع في تلك البلاد البعيدة ويرى من واجبه استمرار التواصل بينهما من قريب أو من بعيد . 

  لكن قد صار عمار أخيرا يتذمر ويتبرّم أحيانا من هذه الوضعية الثنائية أو( الازدواجية ) التي وجد نفسه فيها ويتساءل أحيانا في خاطره وأحيانا يبوح بها للخلّص من آصحابه هل هو عربي وإلى تراثه الهائل ذاك ينتمي أم أنه قد صار اسكندنافيا وإلى ثقافتها الجديدة والعصرية ينتمي أم أن عليه أن يمزج بينهما في عقليته و في سلوكه ولا يبالي بمن سيتّهمه بالازدواجية في الشخصية أو التقاء الاثنين في واحد ؟ 

عمار هو رجل تونسي مُجاز في الفلسفة والعلوم الإنسانية من جامعة بغداد منذ زمن بعيد وقد كتب له القدر أن يعيش في السويد منذ عودته من العراق بعد حصوله على الإجازة في الفلسفة " البكالوريوس" وقد انتُدب  لتدريس العربية والحضارة في مدينة استكهولم عاصمة ذالك البلد بعد أن اتفق مع صديقة له سويدية كان قد تعرف عليها في رحلاته السابقة إلى السويد على الزواج والاستمرار في العيش معا هناك إلى آخر العمر . 
كان يحضُر له الطلبة من المهاجرين العرب ومن غيرهم من أبناء البلد والأجانب الذين كانوا يجدون فيه حاجتهم من الثقافة العامة الضرورية والفكر المتوازن الذي يحتاجه كل امرئ يعيش في المهجر بعيدا عن أهله وعن وطنه الأصلي وفي حاجة ملحة إلى التجذّر في بلاد الغربة حتى لا يبقى منبتا إلى الأبد،والذي يحتاجه أيضا كل امرئ في أي بلد لا يزال في حياته يبحث عن التوازن الضروري للاستمرار في العيش الهنيء وعمّار هذا هو الأستاذ الذي تلتقي فيه إضافة إلى ثقافتة العربية العامة  الثقافة الفلسفية بالثقافة الدينية  دون أي تصادم أو تضارب فلا فسدت عنده الفلسفة ولا تضرر الدين كما يحدث عادة لدى أغلب الأشخاص من أمثاله إذ كان بينهما حكما صلبا شديد المراس ، نموذجا فريدا في إقامة العدل بينهما والحفاظ على ما يمكن أن يكون بينهما من التفاهم في روح المحبة والتسامح رغم ما اشتهر لدى الكثير من المفكرين الأشداء المتطرفين أن بينهما تناقضا منطقيا يجعل منهما رؤيتين للعالم مختلفتين تماما شكلا ومضمونا ولا يلتقيان في سلام أبدا حتى أن العديد من بلدان الشرق الأوسط لا يحتفون بالفلسفة ولا يدرّسونها ويكتفون في حياتهم وثقافتهم فقط بالرؤى الأخرى ، أما ما يمكن أن يكون قد ساعد الأستاذ عمار وهو العربي المسلم بالوراثة على الأخذ بطرفي النقيض هذين في سلام دائم هو دراسته للعلوم الدينية في تونس قبل أن يقوم بدراسة الفلسفة في بغداد العراق لا حقا ما جعله ينتبه في الأخير إلى أن كلا منهما رؤية للعالم مختلفة عن الأخرى ولكل واحدة منهما خصوصياتها المميزة لها لكن بقليل من الانتباه وبما هو ضروري من الفطنة وحسن التدبر يمكن التأليف بينهما في رأيه دون عناء  ودون أن نُلحق بأي منهما ضررا أو تحريفا أو توتّرا: هذا تفكير في ربط الواقع بالغيب المعتقد في وجوده وهذا تفكير في الواقع وحده كما هو دون ربطه بعالم آخر خارج عنه  سوى عالم الفكر الذي يكشف عن سر وجوده في ما صار يُعرف لا حقا بقوانينه و تفكير في الواقع ومقتضيات الحال في كل زمن لذلك يُقال عادة إن الفلسفة ابنة بيئتها ولكل زمان فلسفته و بمفهوم أوضح فإن الدين عقيدة تقوم على التفكير في الغيب والإيمان بوجوده وتأثيره في الواقع المعيش وأن الفلسفة تفكير في الواقع وما يجري فيه من الأحداث  وما يمكن أن نستشرف حدوثه في المستقبل لهذه الإنسانية ولكل منهما على كل حال دواعيه وأسبابه التاريخية والاجتماعية وبالتالي فللعلم وحده أن يكون بينهما الحكم الفصل خصوصا منه ما يعود إلى العلوم الإنسانية هذه الدائمة التطور في الواقع ( التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع وأخيرا علوم التطور المعروفة لدى الغرب ب الانتروبولوجيا ) علما وأن التاريخ العام يمكن أن يشمل تاريخ الأديان والأديان المقارنة في ما بين ما يعرف بالأديان السماوية والأديان الوضعية وما يمكن أن تكون بينها من المقاربات الصحيحة . 
  سببُ التقاء الفلسفة بالدين دون تنافر أو تضارب في عقلية عمار أنه قد درس كلا من الدين والفلسفة بكامل الجدية وقد صار بحكم خبرته الكبيرة بنوعيات الطلاب المختلفين في الخصوصية يستطيع محاولة دفعهم إلى التوفيق في نفوسهم بين الفكر الفلسفي في ذاته الذي يحبونه والفكر الديني الذي يؤمنون به في قرارات نفوسهم  بما فيه من الخصوصية أيضا رغم ما في هذه المحاولة من الصعوبة .

 كان الأستاذ عمار يعلم حق العلم بما بين الفلسفة والدين من تناقض واضح وأنهما في الحقيقة يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان أبدا ، ويعلم أن الموقف لا يكون أبدا موقفا فلسفيا حتى يكون صاحبه متحرّرا من أي إيديولوجية دينية كانت أو دوُقماتية من أي نوع ، ويعلم في الوقت ذاته أن للفلسفة موضوعها الخاصّ بها ومنهجيتها المميزة لها  وأن للدين موضوعه ومنهجه الخاصين به أيضا ويعلم أيضا أنهما لم يظهرا في التاريخ معا بل قد ظهرا في مرحلتين متباعدتين ومختلفتين تماما باختلاف ظهور حاجة الإنسان إلى كل منهما وربما يأتي وقت آخر في المستقبل لم يعد هذا الإنسان فيه  في حاجة إليهما معا بل تظهر له حاجات أخرى تدفعه إلى تكوين ثقافة أخرى غيرهما ،" أليست الحاجةُ هي أم الاختراع ؟ " كما يقول المثل وكل من الدين والفلسفة اختراع من الإنسان لتلبية حاجاته وهذه الحاجات متجددة بتجدد أحواله وأوضاعه الحياتية مع الزمن ومتطوّرة بتطوّره، وقد يكون صاحبنا يعلم أيضا أن الدين يقوم أساسا على عقيدة ثابتة عند صاحبه قد تكون مّكبلة لعقله ولا تسمح له بأي تفكير حرّ خارجا عن نطاقه ورغم ذلك فإنه لا يحاول أبدا أن يخدش أحدا في عقيدته أو يدعوه إلى التحرر منها رغم علمه في قرارة نفسه بأن هذا منه موقف سلبي لا يرضى به تجاه طلابه ومريديه وأصحابه ولا يجد له في أي علم مبررا له  ولكنه في حاجة أحيانا إلى المجاملة ، وكل إناء بما فيه يرشح كما يقول المثل وأن هذا الرجل كان رصيده من الثقافة العامة ( أو ما يعرف بالجذع المشترك بين جميع الناس ) ممزوجا بالكثير من المعارف ومثبّتا بالكثير من المبادئ  التي تجعل منه شخصا ثابتا في المجتمع كثبات الجبل في الطبيعة لا تؤثر العواصف فيه من أية جهة وهذا ما جعله يمسك بزمام الأمور كما ينبغي في التفاعل الصّائب والمُجدي مع طلابه والمحيطين به ويتناغم مع كل الأشخاص مهما كان نوعهم في التفكير والمعتقد دون توتر أو تبرّم ويقبل باختلافهم في ما بينهم إذا كانوا قابلين لبعضهم في المستوى الإنساني ويقبل حتى بالاختلاف في ما بينه وبينهم طالما كان الاحترام والقبول والتقدير سائدا بينهم . 

إنها الحياة : كل ما فيها ناتج عن التناقض ومحكوم بما يُعرف في المنطق بالجدل ، الجدل الطبيعي والجدل الفكري ،الأول منتج لكل شيء في الوجود المادي والثاني منتج لكل شيء في الحياة الفكرية والإنسانية . هذه يمكن أن تكون القاعدة التي يعتمد عليها صاحبنا هذا في التفاعل مع طلابه ومريديه وكل المحيطين به دون تكليف نفسه ركوب دراجة أو سيارة أو طائرة للوصول إلى غايته بل يكتفي بالبقاء حيث هو في الداخل أو في الخارج وينظر إلى العالم من موقعه المكون من ثقافة التنوع " مصدقا لما بين يديه ولمن خلفه .... "                                                                         عبداللطيف بن سالم    
       




إغلاق


تعليقات الزوار إن التعليقات الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي وفكر إدارة الموقع، بل يتحمل كاتب التعليق مسؤوليتها كاملاً
أضف تعليقك
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
عنوان التعليق  *
نص التعليق  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
رد على تعليق
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
نص الرد  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
 
اسـتفتــاء الأرشيف

هل سيتخلى ترامب عن مخططه في تهجير مواطني غزة؟