كتب/علي العزير: لمصر لا لأحمد حلمي

الاربعاء 10/07/2024
كان يجدر بالبروتوكول الإبداعي الذي أعلن عنه رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه، معالي المستشار تركي آل الشيخ مؤخراً، والذي ينطوي على مشروع تعاون تكاملي بين السعودية ومصر في مجال الصناعة السينمائية، أن يشكل فرصة للإحتفاء ليس من قبل السعوديين والمصريين فقط، بل من العرب بمجمعهم.

البديهي أن خطوة بهذه الأهمية من شأنها أن تؤسس لنهضة نوعية في مجال الفن العربي السابع تتخطى التقديرات المسبقة والطموحات المنشودة لتنقل المشهد السينمائي العربي نحو مصاف عالمي ظل قاصراًعن إدراكه منذ تشكله. وقد قيل الكثير عن الأثر المعنوي الذي تتركه السينما فوق ملامح حاضنتها الجغرافية والديموغرافية. حتى أمكن الحسم والجزم بأن دولة بحجم ومكانة الولايات المتحدة الأميركية تدين لهوليوود بالكثير من عوامل تفوقها.
ما يستدعي الأسف أن المناسبة، التي يمكن وصفها بالتاريخية، تحولت إلى مواجهة اتسمت بالكثير من العنف اللفظي مارسه بعض الإخوان المصريين تجاه اشقائهم في المملكة استناداً إلى أن بين الأفلام التي ينوي البرتوكول المشار إليه دعمها فيلم "النونو"، من بطولة نجم الكوميديا المصري أحمد حلمي، وهو يتناول حكاية رجل مصري مارس النصب على مجموعة من الحجاج اثناء تأدية مراسم الحج.

اندفع كثيرون، متذرعين بالدفاع عن سمعة مصر، نحو إدانة الخطوة باعتبارها مسيئة لدولتهم، وذهب بعضهم نحو اتهام السعودية بتعمد التقليل من شأن بلادهم في خطوة أقل ما يمكن وصفها بأنها متسرعة ومفتقدة للحصافة.
ما يمكن قوله في هذا السياق أنه من غير المقبول أن يتسبب بفيلم سينمائي بأزمة بين الدولتين العربيتين الكبيرتين، اللتين، وبالرغم من أن العلاقة بينهما شابها في أحيان كثيرة الكثير من سوء التفاهم، إلا أنهما كانتا تصغيان دوماً لنداء العقل وتغلبان جوهر الأمور على قشورها.
مما ينقل عن المغفور له، مؤسس الدولة السعودية، جلالة الملك سعود بن العزيز أنه كان يوصي أبناءه بالحرص على علاقة حميمة مع مصر، الشقيقة العربية الكبرى التي "يمرض العرب بمرضها، ويصحون بصحتها". وقد عمل الأبناء بوصية الأب. أما أن يتسبب فيلم سينمائي بأزمة تمعن في التصاعد مع كل تعليق يضاف إلى سجلات التواصل الإجتماعي فذلك مما لا يمكن قبوله حرصاً على مصر نفسها التي لا يختلف عربيان حول مكانتها ومكانها في القلوب. مصر هي قاطرة العمل العربي على مختلف الأصعدة وفي شتى الميادين، ومن غير المنطقي أن يُخشى على الريادة المصرية من فيلم سينمائي يتناول سلوكاً مشيناً ارتكبه أحد أبنائها. أي فرد واحد من أصل مئة وعشرين مليوناً. لنتخيل أن هوليوود أحجمت عن انتاج فيلم "قناص أميركي" خشية على الحلم التاريخي الذي بُنيت عليه أمجاد الولايات المتحدة. ولنتصور مأساوية وضع السينما الفرنسية، وفرنسا خلفها، لو أنها تذرعت بالحرص على قيم فولتير وموليير لتمنع إخضاع الملوك الفرنسيين الطغاة لمحكمة التاريخ، ووضع رقابهم المعنوية تحت مقصلته.

لطالما كانت مصر كبيرة في دورها وأبنائها ومواقفها، ولسوف تبقى كذلك، شاء من شاء وأبى من أبى، يكفيها أنها معلمة العالم، وأنها صانعة الحضارات العنيدة التي عجز عنها الزمن بكل جبروته، وأنها حاضنة العمالقة الذين احتفى بهم التاريخ في مجالاته المتنوعة. كما أنها بلاد الخصب الإبداعي بغير جدال. وإن كان يصعب تحديد نقطة انطلاق مسيرتها الزاخرة بكل ما يمثل إضافة نوعية إلى المنجز البشري الجماعي، فقد يكفي التذكير بأنها الأرض المعطاء التي أنجبت أولئك العظام أمثال أحمد شوقي، وحافظ ابراهيم، وعباس محمود العقاد، من أزقتها الضيقة خرج سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، ومن ريفها الأسطوري انبثقت أم كلثوم كشعلة خالدة، وفي حاراتها تألق نجيب محفوظ، وأحمد زويل، ومن أحرف كتبها الشاحبة صنع المبدعون العرب لغتهم المميزة ليصير بعضهم أعلاماً.
مصر المبتسمة دوماً من خلف الجراح هي التي احتضنت المنفيين، من العرب وسواهم، ليبنوا فوق ثراها أمجاداً خلدها الزمن. مصر هذه لا يسعها أن تقبل خشية بعض أبنائها، وإن تكن صادقة، عليها من حدوتة سينمائية، وهي التي صنعت للعالم حواديت شتى ترويها له في الأماسي فيغفوعلى زندها كطفل صغير.

لم تحاول مصر أن تتنكر لمبدعيها يوماً، هي حرصت دوماً على أن تكون وفيه لإنجازاتهم، وأن تكافئهم بما يستحقون. وسيكون نوعاً  من الإجحاف غير المألوف أن يتعرض نجم بحجم أحمد حلمي، لهذا الكم الهائل من الإساءة غير المبررة. يعرف الجميع، أو يجدر بهم أن يعرفوا، أن حلمي هو أحد أعلام الكوميديا الراقية، ليس في مصر وحدها بل في الوطن العربي بأكمله، وأن مصر بالنسبة له ليست مجرد مسقط رأس، بل هي منبع شغف وموئل حلم. مصر لم تعتد على كم أفواه ابنائها الذين برعوا في اجتذاب إصغاء العالم بأحاديثهم الشيقة. فلا تحملوا مصر ما لا تحتمل.



إغلاق
تعليقات الزوار إن التعليقات الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي وفكر إدارة الموقع، بل يتحمل كاتب التعليق مسؤوليتها كاملاً
أضف تعليقك
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
عنوان التعليق  *
نص التعليق  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
رد على تعليق
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
نص الرد  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
 
اسـتفتــاء الأرشيف

برأيك .. هل تعود الأمور لنصابها بين ترامب وزيلينسكي ؟