كتب/ علي العزير: بركان ينقذ داليا من متنمري"التيك توك": الدنيا لا تزال بخير

علي العزير ـ بيروت 
عن طريق الصدفة المحض أمكن للمذيعة المصرية داليا ياسين أن تخوض تجربة حياة جديرة بأن تروى، وصالحة لأن يُصغى إلى تفاصيلها بكثير من الإهتمام.
خضعت داليا، التي تقيم في محلة أكتوبر من العاصمة المصرية، القاهرة، إلى معاناة حياتية قاسية بعد أن خسرت عملها في إحدى محطات التلفزة، وصار عليها أن ترعى وحيدة ابنتها الصغيرة إثر انفصالها عن زوجها. ولأن المصائب لا تأتي فرادى فقد تزامن كل ذلك مع تخلي الأقارب عنها وانصراف كل منهم نحو مشاغله الذاتية، لتجد نفسها منفردة أمام تحديات في منتهى الصعوبة، تتخطى قدرة سيدة عشرينية على الإستجابة لمتطلباتها الكثيرة.

تقول داليا: "منذ بداية التحولات التي طرأت على حياتي العائلية والمهنية أدركت أن مصاعب كثيرة تنتظرني، وقد عقدت العزم على مواجهتها. بدأت أبحث عن عمل في مجال التقديم التلفزيوني لكن ما عرض علي في هذا السياق لم يكن ملائماً. وصل الأمر بالبعض إلى حد الطلب مني أن أدفع نقوداً مقابل الحصول على مساحة من الهواء المرئي لاستثمارها، والبديهي أن عرضاً مماثلاً لا يسعني قبوله"
عندما فقدت محدثتنا الأمل في تحصيل لقمة عيشها من خلال الإعلام الذي شكل رصيدها المهني الأوحد في فترة حياتها الماضية، أيقنت أنه يتعين عليها البحث عن رزقها في أماكن أخرى. وهي تروي تفاصيل رحلتها الشاقة بكثير من الدقة، كما لو أنها تخشى أن تغفل أي جزء منها مهما كان بسيطاً.

لنستمع إلى سردها الذي يبقى شيقاً بالرغم مما يغلفه من حزن مقيم:
 "بينما أقلب الأمور بحثاً عما يخرجني من الأزمة التي استحكمت حلقاتها حولي، تذكرت أنني أملك ذائقة متميزة حيال الطعام، كما أنني أحظى ببراعة في إعداده، فكرت في إنشاء مطعم صغيريقدم خدمات متقدمة لزبائنه. ولما كان الأمر يحتاج إلى رأسمال، فقد عمدت دون تردد إلى بيع شاليه كنت أملكه. وذهبت من فوري إلى استئجار مكان يصلح لأن يكون مطعماً، مجدداً كانت الأقدار تقف لي بالمرصاد، فقد اجتاح فيروس الكورونا الكرة الأرضية فارضاً حالة غير مسبوقة من الحجر الصحي. لم يكن بإمكان مشروعي الوليد  أن يواجه الموقف المتأزم. مرة أخرى وجدت نفسي أمام حاجز لا يمكنني اختراقه. وكان الإنكفاء هو الحل الوحيد".

بالرغم من أسلوب التقشف الذي اعتمدته لم يكن بوسع داليا التأقلم مع ظروفها المعيشية المتفاقمة.. شهدت يومياتها الكثير من شظف العيش الذي يتخطى القدرة على الإحتمال، وبعيداً عن التفاصيل الصغيرة التي يمكن لتراكمها أن يؤشر إلى نمط حياة يقارب البؤس، هي تتوقف عند محطة مفضلية كان يسعها أن تضعها في موقف لا تخسد عليه: 
"لم أكن قد انتهيت من دفع أقساط شقتي السكنية المتواضعة في محلة أكتوبر عندما عصفت بي الأزمة. ولما تكررت مطالبات المالك بالتوازي مع إدراكي المتزايد بأنني لن أفلح في تسديد المبلغ المتراكم قررت الإستسلام، ونويت أن أراجع المالك لأعلمة باستعدادي للتخلي عن الشقة على أن يرد لي ما دفعته مقابلها، أو جزءاً منه. باختصار كانت تقلبات الحياة تسير بي من السيء إلى الأسوأ عندما فتحت صفحة على تطبيق "التيك توك" محاولة الإستفادة من تجربتي الإعلامية في تقديم محتوى هادف ورصين أملت من خلاله الخروج من دوامة التعثر التي استبدت بي زمناً، وسدت علي منافذ العيش من كل الجهات. كنت أتولى اعداد المحتوى متكئة على ما راكمته من خبرة خلال عملي السابق كمذيعة محترفة. لكن الريح لم تجر كما تشتهي السفن. ولم ألق الإصغاء والتشجيع من جمهور المنصة المستجدة التي فرضت تعديلاً مباغتاً و قياسياً على ذائقة المتابعين. وجدت بين الأصدقاء من ينصحني بالتخلي عن مظاهر الرصانة التي بدت مبالغاً بها، والذهاب نحو قدر محسوب من المتعة المسلية استجابة لرغبة المتلقي. 

أصغيت للنصيحة فتخليت جزئياً عن وقار المذيعة وتجهمها متجهة نحو بعض الفكاهة المحدودة الأبعاد، لأجد نفسي، للمرة الأولى منذ زمن بعيد، على موعد مع مفاجأة سارة: ثمانية عشر ألفاً من المتابعين انضموا إلى صفحتي خلال يوم واحد.
بدا الأمر واعداً بالنسبة لي ذلك أنني كنت اراقب نشاط بعض المتقدمين على "التيك توك"، وادرك انه، بالنسبة لهؤلاء ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف التيك التوتكية، اقرب الى دجاحة تبيض ذهباً. طبعاً لم أطمح الى الثراء من خلاله لكنني كنت أبحث عن حد أدنى من الإستقرار المعيشي فقط".

لم يكن لإتساع لائحة متابعيها على التطبيق السحري أن يجعل الحياة وردية بالنسبة لداليا، هو وضعها على تماس مع مستجدات كانت غائبة عن إدراكها. ودفعها للإستنتاج  أن عالم "التيك توك" محاط بالكثير من الألغاز التي تقارب الألغام. لنصغ اليها تروي بعض تفاصيل المرحلة المستجدة: 
"كان أول ما طالعني خلال انتقالي إلى مرحلة الأنتشار الواسع على صفحات التطبيق الذهبي فئة من أصحاب الرصيد الجماهيري الواسع، الحائزين على متابعات مليونية. والمندمجين مع فريق الداعمين الذين يضخون الأموال بكميات تبدو أحياناً مذهلة. يشترك أفراد هذه المجموعة في صفات عديدة. ثمة رغبة جامحة لديهم في الإساءة إلى من يحيط بهم من متابعين أو مناؤين. كما تتقاطع أمزجتهم عند الرغبة في ممارسة حالة متفاقمة من العجرفة التي تشعرهم بأنهم فوق الآخرين. لديهم أيضاً حافز استخدام التعابير البذيئة بشكل متعمد وبهدف اختراق الحصانة القيمية والأخلاقية لمن هم في مرمى نفوذهم. أما العامل الأكثر استفزازا للمشاعر فهو في كون معظم هؤلاء من أصحاب التجارب الحياتية الموسومة بعلامات استفهام أخلاقية شتى. قادتني التجربة نحو الإقتناع بأن هرم "التيك توك" قائم على رأسه بدلاً من قاعدته. من يجدر به أن يكون في قاع المجتمع، استناداً إلى سيرته السلوكية، يتربع فوق القمة معتمداً على أموال مشبوهة المصدر".

كانت داليا على وشك مغادرة "التيك توك" واقفال الباب خلفها موقنة أن ليس لأمثالها من مكان فيه، قبل أن يحصل فجأة ما لم تكن تتوقعه في أكثر احلامها عذوبة.. بركان من الخير انفجر فجأة أمامها ليجعل الأماني العذبة البعيد المنال في متناول أمسياتها التي غدت عامرة بالألق. لنترك لها براعة السرد، ولنكتف بمتعة الإصغاء واثقين من أن الدنيا، على مساوئها الكثيرة، لا تزال بخير:
"كنت قد بدأت اقتنع انني لا أنتمي الى عالم "التيك توك" المليء بالخيبات عندما اقتحم المكان شخص غامض قادم من صوب أمنية راودت البال طويلاً. اسمى نفسه البركان وكان له من اسمه نصيب كبير. منذ اللحظة الأولى لقدومه تغيرت الأشياء من حولي، وابتسمت الحياة كما لم تفعل يوماً، كان يصعب علي التفكير قبله أن بوسع رجل واحد أن يعيد تشكيل العمر فيحوله من صحراء قاحلة إلى حديقة غناء. ولم تنطو مخيلتي يوماً على فارس بهذا القدر من الشهامة يكفي أن يكون موجوداً حتى يصير العالم مكاناً رائعاً، وأن تصبح الحياة أغنية عذبة لا نمل من ترديدها.

بيده المعطاءة وكرمه الأسطوري لم يُعِد إلي بركان بيتي الذي كنت مهددة بفقدانه فقط. هو منحني فرصة التأقلم مع قوانين الحياة مجدداً. أفضل ما فيه، أو لنقل أفضل ما اكتشفته فيه حتى اللحظة، أنه رجل شهم لا تعنيه المظاهر، ولا يبحث عن الأمجاد الزائفة. فأنا لا أعرف، حتى الآن، اسمه الحقيقي، ولم أتعرف على ملامحه الواضحة. لست وحدي من يقر بالفضل للبركان الغامض. يجدر ب"التيك توك" نفسه أن يعترف للرجل بفضيلة اخراجه من غابة التنمر البشري ليدخله في رحاب الإنسانية المعطاء.



إغلاق
تعليقات الزوار إن التعليقات الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي وفكر إدارة الموقع، بل يتحمل كاتب التعليق مسؤوليتها كاملاً
أضف تعليقك
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
عنوان التعليق  *
نص التعليق  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
رد على تعليق
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
نص الرد  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
 
اسـتفتــاء الأرشيف

اختر الحدث الأبرز عام 2024!