م. ميشيل كلاغاصي // 10/2/2024
أصبح واضحاً أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ صبيحة 8/أكتوبر, تحت عنوان الرد العسكري على عملية طوفان الأقصى, لم يكن نتاج ووليد لحظة المفاجئة والرعب والإرتباك الإسرائيلي في 7/اكتوبر, بل كان يمثل لحظةً إطلاق مشروع التحالف الإسرائيلي الأمريكي الغربي الكبير لتصفية المقاومة والقضية الفلسطينية برمتها, وإعادة رسم خارطة المنطقة العربية والشرق الأوسط, ولإستكمال مخططات التطبيع وإتفاقيات إبراهيم وصفقة القرن وإعلان "إسرائيل" كوكباً مركزياً في المنطقة, وإجبار الناجين من الدول والشعوب العربية والإقليمية, على الدوران في فلكه.
فالثورة والمقاومة والنضال الفلسطيني لأجل التحرير واستعادة الحقوق وإعلان الدولة الفلسطينية الحرة السيدة المستقلة, لا يشبه سواه من ثورات ونضال غير شعوب لنيل الإستقلال والحرية وطرد المحتل, لأنها كانت تواجه دولةً استعماريةً ومحتلاً واحداً, في حين يواجه الفلسطينيون تحالفاً وقطيعاً دولياً يلخص جميع الدول الإستعمارية ويقف بالمساعدة والدعم المطلق بكافة أشكاله لسلطة الكيان الغاصب.
وبالرغم من أن الأسابيع الأولى للعدوان كشفت أن المقاومة قوية وثابتة وقادرة على الإستمرار حتى تحقيق النصر, لكن الإسرائيليون والأمريكيون رفضوا الإذعان للهزيمة, واستمر العدوان على وقع الخلافات في الولايات المتحدة التي تستعد للإنتخابات الرئاسية, وكذلك داخل الكيان الإسرائيلي ما بين أعتى متطرفي السلطة السياسية والقيادة العسكرية, في حين بدأ الأوروبيون يعانون في مواجهة التظاهرات الشعبية في عواصمهم دعماً للفلسطينيين ولوقف الحرب على غزة.
كان لا بد لهم من الإستمرار بالعدوان من أجل تحقيق أي انتصار, ولو على حساب الأجندة المتخمة بالمشاريع, فإعتمدوا استراتيجية تمايز وتبادل الأدوار, وبدأت الولايات المتحدة تتحدث عن عدم رغبتها بتوسيع نطاق الحرب, وكثف الإسرائيليون شراسة عدوانهم, فيما بدأ الفرنسيون يسوقون لهجةً مخففة ويعلنون تأييدهم لهدنة إنسانية, في حين اتجه البريطانيون نحو المشاركة في العدوان على اليمن لفك الحصار الاقتصادي الذي فرضه الحوثيون على إسرائيل, ومنع وصول سفن الدعم الاقتصادي والعسكري إلى تل أبيب عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر.
ومؤخراً, كثف الأمريكيون والفرنسيون تحركاتهم السياسية بحثاُ عن مخرجٍ من المأزق الكبير, على وقع النسخ والأفكار المعروضة على المقاومة الفلسطينية عبر الوسطاء القطريون والمصريون , وسجل وزير الخارجية الأمريكي خامس زيارةٍ فاشلة له إلى المنطقة وإلى تل أبيب, والتي لم تنته كالعادة بمؤتمر صحفي مشترك, وأعلن بلينكن منفرداَ من سفارة بلاده هناك, أن أي "عملية عسكرية تقوم بها إسرائيل يجب أن تراعي المدنيين في المقام الأول، وهذا ينطبق على حالة رفح"، بسبب وجود أكثر من مليون نازح فيها.
من الواضح أن الإدارة الأمريكية فتحت باب التفاوض غير المباشر, على وقع إعلان جون كيربي إن "الهجوم على رفح دون مراعاة المدنيين سيكون كارثة", أما الرئيس بايدن وبعد 125 يوماً للعدوان الإسرائيلي أعلن من البيت الأبيض، أن الرد العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة كان "مفرطاً", ومؤكداً في الوقت ذاته, أنه أقنع الرئيس المصري بفتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية, وسط تواتر الحديث الإعلامي عن رغبة واشنطن وتل أبيب بإقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح على الحدود مع مصر بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي عقدت في العام 1979, وهذا ما رفضه المصريون بشكلٍ جدي وحاسم منذ بداية العدوان على غزة, فيما أكد اجتماع الرياض على ضرورة رفع المساعدات المقدمة لقطاع غزة, ووسط المطالبة بخطوات لا رجعة فيها عن حل الدولتين.
أما على الجبهة اللبنانية, فقد بدأت نقاشات جدية بين واشنطن وباريس بإعتبارها الطرف الغربي الذي يملك اتصالات مباشرة مع حزب الله, وبنتيجته قام وزير الخارجية الفرنسية بزيارة بيروت يرافقه وفدٌ دبلوماسي وأمني رفيع المستوى, والتقى الوفد رئيس الحكومة اللبنانية ورئيس المجلس النيابي بحضور وزير الخارجية اللبناني والسفير الفرنسي في لبنان, دون أن يصدر تأكيد على حدوث لقاء الوفد بمسؤولي المقاومة اللبنانية, وهي التي قدمت بالأمس ردوداً ميدانية حيال قوة الرضوان, وكانت قد حسمت مواقفها من قبلها, بعدم جدوى اللقاءات والنقاشات ما دامت الحرب مفتوحةٌ على غزة, رغم الحديث عن أفكار يحملها الفرنسيون بإدارة المنطقة الحدودية, تتعلق بعدم ربط الصراع في الجنوب بالصراع في غزة.
في الوقت الذي قدمت فيه المقاومة الفلسطينية ردها على النسخة الأخيرة للتهدئة, وبمواقف اتسمت بالمرونة والإيجابية, لكنها أكدت تمسكها بوقف العدوان على غزة, وانسحاب الاحتلال من القطاع, وبإطلاق جميع الأسرى, وبإدخال المساعدات بحجمٍ مناسب إلى قطاع غزة, في حين رفض نتنياهو رد المقاومة, وهو المربك والتائه, والذي لم يعد يملك سوى التهديد بقصف رفح بإارتكابه أم المجازر نتيجة ارتفاع الكثافة البشرية هناك, يبدو بات يواجه رهاناً وحيداً وهو الرضوخ لمسالك الدبلوماسية الأمريكية, الساعية للخروج بإنتصار أمريكي – إسرائيلي مشترك, ليقينه بأن إدارة بايدن لن تخذل إسرائيل, وعلى أمل إنقاذ نفسه وأفراد عائلته ومصيره السياسي والكيان الإسرائيلي من الغرق الكبير, دون أن يستبعد ترجمة البرود وغياب انسجامه مع الرئيس بايدن, بالتضحية به وإعتباره كبش الفداء في "إسرائيل" وفي الإنتخابات الأمريكية, بالتوازي مع تراجع نسب تأييد الرئيس بايدن إلى مستويات متدنية للغاية, وبما يشي بهزيمته الأكيدة أمام المرشح دونالد ترامب.
ويبقى السؤال .. هل سيتسع باب التفاوض الأمريكي اليوم, إلى مفاوضات باتت ضرورية بالنسبة لها وحاسمة تجاه طريقة بقائها أو إنسحابها أو طردها بالقوة من سورية والعراق , وإنهاء عدوانها على اليمن, ومن المهم لها إدراك أن التفاوض مع أركان محور المقاومة يختلف كلياً عن ما تحتفظ به في ذاكراتها ومفاوضاتها المنفردة في الماضي مع بعض الدول والأنظمة العربية, وبأن هذا التفاوض لا يمكن عزله عن التفاوض مع سورية والعراق ومصر والسعودية وإيران وروسيا والصين.