لوقتٍ طويل تجنبت "إسرائيل" الحديث العلني عن هدفها بإقامة قناة بن غوريون, لكنها لم تغفل يوماً عن العمل لأجلها تحويلها واقعاً , الأمر الذي من شأنه تغيير الوجه الاقتصادي للكيان الغاصب, ومنحه مكانةً استراتيجية تضاف بالأساس إلى مكانة الموقع الجغرافي الهام لفلسطين المحتل, وقدرة موانئها على منافسة كافة الموانىء العربية المجاورة لها, وبإعتبارها واحدة من أهم وأقدم وأعرق الدول المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ظهر اقتراح مشروع بناء هذه القناة في ستينيات القرن الماضي, عن طريق ديفيد بن غوريون, وعلق الإسرائيليون والأمريكيون والأوروبيون اّمالاً كبيرة على المشروع, وعلى قدرة قناة بن غوريون منافسة قناة السويس, لمنحهم فرصة الإستغناء عنها خصوصاً وأنها أرقت مضاجعهم مراراً وتكراراً, وتحديداً منذ قرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم القناة عام 1956, الأمر الذي دفع الإسرائيليون والفرنسيون والبريطانيون لشن العدوان الثلاثي على مصر بهدف استعادة السيطرة على القناة, لكن مصر أعلنت وقتها إغلاق القناة نتيجة العدوان, وتكرر الأمر عام 1967 مع بداية حرب وعدوان "الأيام الستة", الأمر الذي تسبب بشلل العمليات التجارية الإسرائيلية مع دول اّسيا وشرق أفريقيا, ودفع تل أبيب وواشنطن والعواصم الغربية عموماً , للنظر بعدائية تجاه الدولة المصرية والفوائد السياسية والإقتصادية والمالية التي توفرها قناة السويس للدولة المصرية, ناهيك عن العلاقات التجارية المصرية مع كل من روسيا والصين, وغير دول.
فقد شهدت العلاقات المصرية الروسية نمواً كبيراً, وبدأت تحقق قفزات نوعية منذ عام 2022, كذلك تتمتع مصر بعلاقات مميزة مع الصين, ووقعت معها اتفاقية "شراكة استراتيجية" عام 2014, لتعزيز تعاونهما في المجالات الدفاعية والعسكرية والإقتصادية, بالإضافة إلى الدعم الإقتصادي المتزايد الذي تقدمه الصين في إطار مشروع طريق الحرير, فضلاً عن انضمام مصر إلى مجموعة البريكس كأحد أهم التكلات الاقتصادية العالمية, أمورٌ بمجملها ضاعفت أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه قناة السويس عبر الربط التجاري بين أفريقيا واّسيا وأووبا.
وأصبح ربط قناة بن غوريون بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط حلماً لقادة الكيان الغاصب وداعميه, من جنوب خليج العقبة ليصل إلى البحر المتوسط عبر ساحل قطاع غزة, والموانىء التي سيقوم الكيان الإسرائيلي ببنائها هناك, رغم تعويلهم على ميناء حيفا, بهدف تقليل إعتماد حركة النقل الدولي على قناة السويس, واستبدالها بقناة بن غوريون, لتكون البوابة الرئيسية لوصول السفن التجارية وناقلات النفط والغاز نحو أوروبا.
لقد "ألهم" مشروع قناة بن غوريون أصحابه الأمريكيين والإسرائيليين والغربيين, الإتجاه نحو كبح والإضرار بالإقتصاد والدور السياسي والإقتصادي المصري في المنطقة, واستهداف دورها الداعم للقضية الفلسطينية, والتأثير على وساطتها الدائمة في ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, بالإضافة إلى ضرورة تدمير قطاع غزة وتسويته بالأرض وإبادة وتهجير وتسفير أهلها الفلسطينيين نحو سيناء والنقب, تحت عنوان الإنتقام والرد على عملية طوفان الأقصى في 7/أكتوبر.
رغم الألم وسقوط حوالي الـ 30 ألف شهيد, واّلاف المصابين والجرحى والمنكوبين والمفقودين والذين تستمر قوات الاحتلال بإعتقالهم يومياً, ومع الصمود والبطولات والإنجازات التي تسطرها المقاومة الفلسطينية وأهالي القطاع والضفة, بدأت تتساقط الأقنعة الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية, وبدأت تحصد معها هزائم المشاريع المعدة سلفاً لنسف القضية الفلسطينية برمتها, وكان من المهم للرئيس بشار الأسد التأكيد على "أن غزة ليست القضية إنما فسطين هي القضية".
لقد شهدت يوميات العدوان والحرب على غزة عودة ظهور مشروع تبادل الأراضي, وبناء جزيرة للفلسطينين في البحر, ونقل معبر رفح إلى المثلث الحدودي في منطقة أبو سالم, والتركيز الإسرائيلي على استعادة السيطرة الأمنية والعسكرية على قطاع غزة, وسط إصرار وتمسك رئيس وزاء العدو الإسرائيلي بإستمرار العدوان حتى تحقيق هدفه بالقضاء على حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية, على الرغم من وضوح الرؤية لدى جميع الأطراف بإستحالة تحقيق أي إنتصار عسكري إسرائيلي, وانعكاس تداعيات الفشل بهزيمةٍ سياسيةٍ أيضاً, سيكون نتنياهو وبايدن أكبر الخاسرين فيها.
لا بد للمقاومة الفلسطينية أن تكون شديدة الحذر والدقة في التعامل مع نسخ التهدئة المؤقتة المعروضة, وعليها التمسك بشروطها بإنسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من كامل أراضي قطاع غزة, وبعودة المهجرين واللاجئين إلى مدنهم وقراهم ومخيماتهم وبيوتهم في القطاع, وهذا بحد ذاته كفيلٌ بتعطيل مشروع قناة بن غوريون, وبإلحاق الهزيمة بكافة المشاريع التي أعلنها العدو الإسرائيلي, وتلك التي لم يعلنها, رغم الضغوط الأمريكية وزيارة بلينكن الخامسة إلى المنطقة, وتعويله على تبادل الأسرى, وزيارة تل أبيب لبحث التفاصيل الصعبة والمخادعة على صعيد الجبهة الفلسطينية واللبنانية, على أمل جعل إسرائيل تكسب في السياسة ما خسرته في الحرب, في ظل الإنقسام داخل الحكومة الإسرائيلية, وضغوط الدول التي قامت بتعليق لا أخلاقي لتمويل وكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين الأونروا, دعماً واستمراراً للمجازر الإسرائيلية وللحصار والتجويع وكل جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الإسرائيلي – الأمريكي – الغربي.
من المهم استمرار ما تقوم به القوات المسلحة اليمنية وأنصار الله, في تشديد الحصار الاقتصادي والعسكري على السفن العابرة لمضيق باب المندب بهدف استخدام مياه البحر الأحمر للوصول إلى الكيان الغاصب, وكذلك المواجهة البطولية للمقاومة اللبنانية وإجبارها العدو الإسرائيلي للرضوخ إلى معادلات الردع المقاوم, وإجباره على وقف العدوان بلا شروط, كذلك ما يقوم به أبطال الحشد الشعبي وحزب الله العراق, والمقاومة السورية, والدعم المطلق من الدولة السورية وجمهورية إيران الإسلامية, وعدد من الدول العربية, على أمل تصاعد كامل الدعم العربي الرسمي للقضية الفلسطينية, خصوصاً وأن الشعب العربي داخل الوطن العربي وخارجه, والملايين من شعوب العالم تقف إلى جانب المظلومية الفلسطينية, ودعم وقف العدوان على غزة, وبدعم المحكمة الدولية التي لا بد لها من عدم الرضوخ للهيمنة الأمريكية والحركة الصهيونية وأدواتها, وقيامها بواجبها المهني والأخلاقي, ولمحاسبة مجرمي الحرب ومرتكبي المجازر والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين, بدءاً من الرئيس الأمريكي جو بايدن, ومجرمي إدارته, وكافة القادة الأوروبيين الذين أيدوا "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها", وهم يعلمون علم اليقين أنها سترتكب الفظائع والمجازر التي لم تشهد لها البشرية مثيلاً.