ذاتَ يومٍ وفي طريق عودتي إلى المنزلِ كَانَ التيارُ الكهربائي قد انقطعَ من الحي، فكانت الطُرقُ مظلمة وشبه خالية، توقفتُ عن السيرِ عندما شعرتُ أن هُناكَ من يتبعُني إلتفتُ بحذرٍ إلى الخلف ولكن لم أجد احد، كاد قلبي يتوقفُ عندما شَعرتُ بشئ يَجُرُ كُمَ قميصي نظرتُ اليه و تنفستُ الصعداء عندما رأيتها طفلةً لم يتجاوز عُمرها التسعَ سنين، قالت لي ببرأةٍ طفولية:
"هلّا إشتريتَ مني بعضَ قِطعِ الحلوى يا سيدي"
دنوتُ منها وقلتُ لها:
"يا صغيرتي ماذا تفعلين في هذا الوقت المُتأخر؟
عليكِ العودةُ إلى المنزلِ وإلا ستقلقُ والدتكِ عليكِ"
إجابتني بعدمِ إكتراث:
"لنْ تَقلقَ عليّ فهي من طلبَ مني أن اخرج لأبيعَ الحلوى"
تفاجأتُ مِن جوابها فقلت لها:"وأين والدك؟"
-"ولكنْ أنا ليسَ لديّ والد!..هذا ما تَقوله لي أُمي، ودائما ما كانت تَصرخُ في وجهي وتقول انني سببُ فَقرها لذلكَ تطلبُ مني أن ابيعَ الحلوى لأُسدد نفقاتي اليومية"
شَعرتُ بشئ دافئ يسلُ على خدي إنها دموعي. مسحتُ على رأسها وأنا أهزُ رأسي أسفاً على حالها، قالت لي:
"لا تبكي يا سيدي، إذا كُنتَ لا تَملكُ المالَ الكافي سوفَ أُعطيكَ حلوى مجانية"
إبتسمتُ رُغماً عني وقلتُ لها:
"يا صغيرتي، أنتِ لستِ سبباً في فقرِ والدتكِ، وصدقيني لديكَ والدٌ رائع لابُد أنه في مكان ما يبحثُ عنكِ، والآن اخبريني في أي صفٍ انتي؟"
="أنا لا أذهبُ إلى المدرسة، ولم أتعلم أي شئ"
-"ولكن أليست المدرسةُ مهمة جداً اكثر من بيع الحلوى؟"
="لا أظنُ ذلكَ يا سيدي، تُخبرني أمي دائماً أنني لا احتاجُ إلى المدرسةَ...فعلى كُل حالٍ سألقى مَصير بائعة الكبريت!"
مَسحتُ وجهي بكَفيّ وقلتُ لها:
" أنتِ تستحقين أن تتذهبي إلى المدرسة مثلُكِ مُثلُ باقي الأطفال، وصدقيني لن تَكون نهايتكِ مثل بائعة الكبريت، بل ستصبحينَ ذاتَ ليلةٍ عروساً جميلةً مثلَ ساندريلا"
ابتسمت ابتسامةً بريئة وبَدتْ لي كأنها بدأت تتخيلُ نفسها وهي ترتدي فُستان ساندريلا...ولكن سُرعان ما تلاشت إبتسامتها وقالت لي بِحزن وآسى:
"ولَكِن يا سيدي
لقد أَحبَّ الجَميعُ ساندريلا..
أما أنا فلا أحد يُحِبُني..
يَهربْ الجميعُ ويتذمرونَ عندما أنظرُ إليهم..
يصرخونَ ويَطلبونَ مني الإبتعاد..
يَرمونَ الحلوى على الإرضِ عندما أطلبُ منهم شراءَ بَعِضها..
يَكرهونَ كُلَ شئ يتعلقُ بي..
حتى أُمي تُخبروني أنها تَكرهُني..
يُعامِلونني وكأنني خَطيئة"
صمتتْ هَنيهةً ثُم قالتَ بصوتٍ يَشوبُه الحُزن:
"أنا لستُ خَطِيئةً ياسيدي، أليسَ كَذلك؟"
أحسستُ بِقشعرية تسري في جسدي، بدأتُ أشك في كوني أُحدثُ طفلةً في التاسعة من عمرها، لقد كانت أكبرَ من ذلكَ بكثير، شعرتُ انني أُحدثُ نسخةً مني، نظرتُ اليها وقلت:
"نعم يا صغيرتي...انتي لستِ خطِيئة، ولكنْ الخطاءُ الوحيدُ هو أننا عِشنا في مجتمع لا يَرحمُ من لم تَرحمهم بناتُ الدهرِ، فلا تشغلي نفسكَ بالتفكير الكثير يا صغيرتي، وصدقيني سَتُصبحين أجمل ساندريلا يعرفها العالم ويحبها الجميع"..
#مناسك_إبراهيم