إنتقل الشاعر المتنبي إلى مصر في زمن كافور الأخشيدي – بعد أن أخذته أحلامه، أن كافوراً سيُقْطِعه إمارة أو ولاية أو شيئاً من هذا.
وعندما أيقن المتنبي أن كافور الأخشيدي لن يعطيه شيئاً، إنتظر الفرصة السانحة ليهرب، فكانت صبيحة عيد الأضحى حيث هرب تاركاً قصيدته الهجائية الشهيرة التي يهجو فيها كافوراً ومطلعها :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ ... بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
واليوم ونحن قد مرّت علينا شهور رمضان، وأعياد الفطر والأضحى والميلاد ورأس السنة وكل الذكريات الأُخرى خلال السنوات الماضية، من المولد النبوي الشريف إلى كربلاء الحزينة وغيرها، فهل سنُردِّد نحن المسيحيون قصيدة المتنبي ونسأل عنِ الجديد الذي ينتظرنا؟
كنتُ دائماً أبتعد عن صيغِ الأقلية أو الأكثرية، ومنذ فترات زمنية قريبة وصلتني رسائل متعددة تتكلم عن وجود المكوِّن المسيحي، إلى درجة التأكيد لا بل التشديد على عدم الرغبة أن يغادر المسيحيون أرض سورية.
وصلتني الرسائل الخاصة والعامة للتأكيد على ذلك، وكأنني صاحب القرار أو القدرة على إيقاف نزيف الهروب الجماعي وهستيريا الهجرة التي بدأت مع بداية الأزمة السورية، ومن المسيحيين من يردد أن "هذه الارض لم تعد أرضنا" و "انقطعت مياهنا من هنا" و "المسيحيون لم يبق لهم دَور"، وغيرها الكثير، ترافق ذلك مع إحراق كنائس والعبث بمحتوياتها، أو تهديد تلقاه البعض، يُضاف الى ذلك بعض الأفلام التي يتم تداولها والتي تؤجج الخوف الدفين، وكأن هناك عملية ممنهجة لتهجير المسيحيين بقوةِ الخوف، فتَوَجَّوا نتيجة ذلك إلى هجرةٍ باعِثها ديني وذلك للمرة الأولى في العصر الحديث، لأن الهجرات السابقة كانت لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى بينما اليوم أصبحت ذات سبب ديني بامتياز.
سافر المسيحييون من سورية عموماً، ومن حلب – وأنا منها - خصوصاً، إلى لبنان، والغالبية منهم كان يعتبر سفره مؤقتاً حتى تنقشع غمامة ما سيحدث، ولكن الجميع للأسف أصبح يُفكِّر في الهجرة ويبحث في زوايا ذاكرته عن أماكن تكون مستقبلاً له.
الغالبية الكبيرة من المسيحيين الذين هاجروا لن يعودوا وهذه الأحداث الحاصلة جعلتهم يفكرون بالهجرة النهائية، وهذا للأسف ما نراه من عودتهم لبيع ممتلكاتهم.
ويأتينا في الكنائس أيام الآحاد بعض رؤساء رجال الدين - مدفوعين - ليتحدثوا ويطلبوا من المسيحيين عدم الهجرة.
ليتفضلوا ويقولوا لنا ما هي المشاريع التي أقاموها على مدى سنوات سابقة طويلة لأجل إبعاد المسيحيين عن الهجرة؟
أين هي مشاريع الإسكان التي قاموا بها، لتمكين الطبقة الفقيرة والمتوسطة – ركيزة المسيحية - من الإستقرار في البلاد؟
توجه بعضهم لخلق مشاريع إستفادت منها الشريحة الغنية فقط، وغالبيتها كانت أول من غادر البلاد لدى بداية الأحداث .
سيقولون لنا عن المشاريع المدرسية مثل التعليم المجاني، فأجيب أن هذه المشاريع غير كافية لنزع فكرة الهجرة من عقول الفئات التي تشكل الغالبية المسيحية.
يا أيها البعض من رؤساء رجال الدين المسيحي.
وقفتم بِلباسكم المزركش والملوَّن، وناديتم وندّدتم وصرختم مطالبين بعدم الهجرة.
لا شك ان وعي الغالبية من السوريين المسيحيين لمواطَنَتِهم هي أكبر من مجرد أحلام يضعونها في حقيبة السفر، ولكن هذه الغالبية التي أهملتموها، بعدم وفرة طرح المشاريع الجادة لترسيخهم في سورية، لم يبقَ أمامها إلا أن تهاجر وتجعلكم نواطير مفاتيح بيوتهم.
فَكفاكم بكاءً كالنساء على المسيحيين الذين لم تقفوا معهم كالرجال.
ثم بعد مواعظكم الغراء عن البقاء والتشبث بأرض الأجداد .. تهاجرون؟؟؟؟
اللهم اشهد اني بلغت