تيار المستقبل السوري : قطاع الطاقة في سورية، الأسباب والعواقب وسُبل التعافي

يواجه قطاع الطاقة في سورية، الذي كان في السابق ركيزة أساسية لاقتصادها، انهياراً كارثياً بسبب أكثر من عقد من الصراع، والعقوبات الدولية، وسوء الإدارة الممنهج. تستعرض هذه الورقة هيكلية قطاع الطاقة وأهميته عالمياً، وتُقدّم سياقاً عن قدرات سورية قبل الحرب، وتحلل عوامل تراجعه، وتستكشف الآثار الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأزمة.

وكما تُؤكد الورقة على الحاجة الملحّة لإعادة الإعمار والإصلاح.  

قطاع الطاقة
التعريف والأهمية العالمية:
يشمل قطاع الطاقة استكشاف الموارد واستخراجها وتكريرها وتوزيعها واستهلاكها، مثل النفط والغاز الطبيعي والطاقات المتجددة، حيث يُعد هذا القطاع حيوياً للاستقرار الاقتصادي والأمن الوطني والرفاه الاجتماعي. 

عالمياً، تُشكل الطاقة نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المعتمدة على النفط، وهو أساس البنية التحتية الحيوية من الصحة إلى التعليم (البنك الدولي، 2021). ويرتبط الوصول الموثوق للطاقة بمؤشرات تنمية بشرية أعلى، حيث يُمكن زيادة النمو الصناعي والتقدم التكنولوجي والحد من الفقر (وكالة الطاقة الدولية، 2020).  

قطاع الطاقة السوري قبل عام 2011:  

قبل الثورة عام 2011، أنتجت سورية 380 ألف برميل نفط يومياً، مساهمةً بنحو 25% من إيرادات الحكومة و20% من الناتج المحلي الإجمالي (أوبك، 2010)، كما امتلكت البلاد 2.5 مليار برميل من الاحتياطيات النفطية المؤكدة و8.5 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، مركزةً في مناطق شرقية مثل دير الزور (إدارة الطاقة الأمريكية، 2010)، وقد أدارت كيانات حكومية، مثل الشركة السورية للنفط، عمليات الاستخراج، بينما أشرفت وزارة الكهرباء على التوليد بقدرة 8 جيجاوات، 80% منها من محطات حرارية (الجمهورية العربية السورية، 2009).  

آثار الصراع السوري على قطاع الطاقة:
هناك آثار عديدة للصراع السوري على قطاع الطاقة، نذكر أهمها وهي:
تدمير البنية التحتية، فقد دمر الصراع البنية التحتية للطاقة. بحلول 2016، حيث تضرر أكثر من 50% من محطات الكهرباء، وانخفض إنتاج النفط إلى 15 ألف برميل يومياً (مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 2017)، كما زادت سيطرة تنظيم داعش على الحقول الشرقية (2014–2017) من الخسائر، مع نهب المعدات وتخريب الأنابيب (معهد تشاتام هاوس، 2018).  
العقوبات والعزلة الاقتصادية، فلقد شلت العقوبات الغربية، بما فيها حظر النفط الأوروبي عام 2011 وقانون قيصر الأمريكي (2020)، قدرة سورية على تصدير النفط أو استيراد تكنولوجيا التكرير (أونكتاد، 2022). كما انخفضت إيرادات النفط من 4 مليارات دولار سنوياً إلى 150 مليوناً بحلول 2020 (تقرير سورية، 2021).  
فقدان الخبرات الفنية، حيث تسبب نزوح أكثر من 12 مليون سوري، بينهم مهندسون ومتخصصون في الطاقة، في شل قدرة القطاع على التعافي (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2023).  
التحديات الحالية والعواقب:
تتجلى التحديات الحالية بعد التحرير بما يأتي:

نقص الكهرباء، حيث انخفضت قدرة التوليد إلى 2 جيجاوات بحلول 2023، مع حصول المنازل على الكهرباء 2–4 ساعات يومياً (وزارة الكهرباء السورية، 2022).  
فقر الوقود، إذ أدت أسعار الوقود المدعومة إلى ظهور سوق سوداء؛ ارتفعت معها أسعار الديزل 1200% بين 2011–2023 (منظمة باكس، 2023).  
أزمة إنسانية، حيث تعتمد المستشفيات والمدارس على مولدات باهظة الثمن، وتعاني أنظمة ضخ المياه من أعطاء متكررة، مما يفاقم تفشي الأمراض (منظمة الصحة العالمية، 2022).
العقوبات الدولية، حيث تمنع العقوبات بموجب قانون قيصر استيراد معدات متطورة، مما يُبطئ تطوير مشاريع الطاقة المتجددة.
التمويل المحدود، حيث تعتمد معظم المشاريع على تمويل خارجي غير مستقر، كما في حالة منظمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) التي مولت أنظمة شمسية للمستشفيات في إدلب (التقرير الإنساني لسورية، 2023).  
محاولات التعافي ومبادرات الطاقة المتجددة:
ركز النظام البائد على إصلاحات محدودة في مناطق نفوذه، كما انتشر استخدام الطاقة الشمسية، مع تركيب 300 ميجاوات من أنظمة غير متصلة بالشبكة بحلول 2023، لكنها تبقى مجزأة (معهد الشرق الأوسط، 2023). استثمرت روسيا وإيران في صفقات طاقة، مُقابل حقوق الموارد، مما عمق التبعيات الجيوسياسية (مجلس الأطلنطي، 2022).  

كما شهدت المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد البائد، مثل شمال غرب سورية (إدلب وأرياف حلب) وشمال شرقها (تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية)، مبادرات محدودة لكنها ملحوظة لإحياء قطاع الطاقة، مع تركيز متزايد على الحلول اللامركزية والطاقة المتجددة نتيجة انعدام الدعم المركزي وتدمير البنية التحتية.  

ففي شمال غرب سورية، أو ماكانت تسمى بمناطق المعارضة بإدلب، أدى تدمير محطات الكهرباء وانقطاع الوقود إلى اعتماد السكان على الطاقة الشمسية، ووفقاً لتقرير منظمة PAX (2022)، فقد تم تركيب أكثر من 200,000 لوح شمسي بحلول 2022، تغطي نحو 30% من احتياجات المنازل، بفضل جهات إغاثية مثل منظمة "هيئة الإغاثة الإنسانية" ومبادرات محلية، مع ذلك، فقد كانت تعيق الهجمات الجوية على البنية التحتية مثل قصف محطات الطاقة في 2023 وضع أنظمة مستدامة (معهد الشرق الأوسط، 2023).  

وفي شمال شرق سورية في مناطق الإدارة الذاتية الكردية، تعتمد السلطات المحلية على مشاريع صغيرة ممولة من منظمات دولية، مثل تركيب مضخات مائية تعمل بالطاقة الشمسية في الرقة ودير الزور بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، وفقاً لدراسة RAND Corporation (2023)، تم إنشاء مزارع رياح صغيرة في الحسكة لتوليد 50 ميجاوات، لكنها بقيت غير كافية بسبب العقوبات التي تحدّ من استيراد المعدات.  



الخاتمة:
بعد تحرير سورية، سيُشكل إصلاح قطاع الطاقة تحدياً جوهرياً لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وإننا في المكتب الاقتصادي لـِ تيار المستقبل السوري نوصي باعتماد التوصيات التالية والتي استقيناها من دروس مستفادة من دول خرجت من حروب أو أزمات مماثلة، مع مراعاة الخصوصية السورية:  

إصلاح الحوكمة والمؤسسات، وذلك عبر إنشاء هيئة مستقلة لإدارة قطاع الطاقة على غرار "هيئة إعادة إعمار العراق" (2003)، لتجنب التسييس والفساد، كما يجب تجاوز سلبيات هذه التجربة من خلال ضم خبراء محليين ودوليين وتتبع معايير الشفافية. ويمكن الاستفادة من لا مركزية إدارة الطاقة كما في تجربة كردستان العراق (بعد 2003)، حيث ساهمت الإدارة المحلية في تسريع إصلاح الشبكات وتوزيع الموارد بعيداً عن البيروقراطية المركزية.  
إعادة تأهيل البنية التحتية، عبر إعطاء الأولوية لإصلاح محطات الكهرباء الرئيسية باستخدام نماذج التمويل المشترك (مثل خطة مارشال لألمانيا ما بعد الحرب)، مع التركيز على الطاقة المتجددة (شمسية ورياح) لتقليل الاعتماد على الوقود، كما فعل اليمن عبر مشاريع الطاقة الشمسية المدعومة من UNDP (2021).  
وأيضاً، إعادة بناء شبكات التوزيع المتضررة عبر شراكات مع شركات دولية، كما حدث في لبنان بمساعدة الاتحاد الأوروبي (مشروع EIB لشبكات الكهرباء، 2018).  
تحفيز الاستثمار الخاص والإقليمي، وذلك عبر سن قوانين جاذبة للاستثمار الأجنبي تُشبه قانون الاستثمار الأردني (2014) الذي سمح بإنشاء مزارع شمسية برأس مال أجنبي. إضافة لتعزيز التعاون الإقليمي عبر ربط الشبكة السورية مع دول الجوار (تركيا، الأردن، العراق)، على غرار "مشروع الربط الخليجي" (GCC Interconnection Grid)، لتحقيق أمن طاقوي مشترك.  
معالجة الفقر الطاقوي بشكل عاجل، من خلال توزيع أنظمة شمسية منزلية مجانية للأسر الأكثر فقراً، كما نفذته منظمة "مهندسون بلا حدود" في اليمن (2020). إضافة لإطلاق صندوق طوارئ لدعم الوقود للمرافق الحيوية (مستشفيات، مدارس)، مستفيدين من تجربة لبنان في تمويل المولدات المجتمعية خلال أزمة 2021.  
بناء القدرات المحلية والعدالة الانتقالية من خلال تدريب كوادر سورية على تقنيات الطاقة المتجددة عبر برامج مماثلة لتلك التي نفذتها ألمانيا في العراق (برنامج GIZ لتدريب المهندسين، 2017).  
إضافة لمحاسبة الفاسدين في القطاع الطاقوي السابق عبر آليات عدالة انتقالية، كتلك التي طبقتها تونس بعد 2011 لاسترداد الأموال المنهوبة.  
دمج الحلول الذكية والابتكار، وذلك باعتماد شبكات طاقة ذكية (Smart Grids) لتقليل الهدر، كما فعلت جنوب إفريقيا بعد أزمات انهيار الكهرباء (2019).  
مع أهمية تشجيع الشركات الناشئة في مجال الطاقة عبر حاضنات تمويلية، على غرار تجربة "مشروع الابتكار الطاقوي اللبناني" (LCEC, 2022).  

إننا نرى أن إصلاح قطاع الطاقة السوري يتطلب نموذجاً شاملاً يجمع بين الإصلاح المؤسسي والاستثمار في التقنيات الحديثة والتعاون الإقليمي، كما نرى أن التجارب الدولية تُظهر أن النجاح يعتمد على:  

تجنب إعادة إنتاج أنماط الحوكمة الفاسدة.  
إشراف دولي مؤقت لضمان النزاهة.  
أولوية تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة.  
يمثل انهيار الطاقة في سورية تقاطعاً بين الحرب والحوكمة والسياسة العالمية، ويتطلب التعافي رفع العقوبات وإعادة بناء البنية التحتية وتعزيز التعاون الدولي، فدون معالجة أزمة الطاقة يبقى التعافي الاجتماعي والاقتصادي للسوريين مستحيلاً.  

كما يُبرز هذا التركيب بين التحليلات الأكاديمية والمؤسسية والتجارب السابقة؛ الأزمة متعددة الأبعاد في قطاع الطاقة السوري، ليكون الخلاص عبر عمل منسّق لتفادي مزيد من التدهور الإنساني.




إغلاق


تعليقات الزوار إن التعليقات الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي وفكر إدارة الموقع، بل يتحمل كاتب التعليق مسؤوليتها كاملاً
أضف تعليقك
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
عنوان التعليق  *
نص التعليق  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
رد على تعليق
الاسم  *
البريد الالكتروني
حقل البريد الالكتروني اختياري، وسيتم عرضه تحت التعليق إذا أضفته
نص الرد  *
يرجى كتابة النص الموجود في الصورة، مع مراعاة الأحرف الكبيرة والصغيرة رموز التحقق
 
اسـتفتــاء الأرشيف

برأيك .. هل تعود الأمور لنصابها بين ترامب وزيلينسكي ؟