مقدمة:
تُعتبر الديمقراطية أحد أكثر المفاهيم السياسية إثارةً للجدل والاهتمام في العصر الحديث، حيث تُجسد تطلعات الشعوب نحو الحكم الذاتي والمساواة. ومع ذلك، تظل طبيعتها متعددة الأوجه، مما يستدعي تحليلًا أكاديميًا متعمقًا لتعريفها وأشكالها وتطورها التاريخي، وهذا ما أكده الرئيس “أحمد الشرع” في مجلة “إيكونوميست” عند جوابه على سؤال الديمقراطية، فأجاب بتعدُّد تعريفاتها لدى السوريين.
التعريف والماهية:
يرجع جذور مصطلح “الديمقراطية” إلى الكلمة اليونانية “ديموس” (الشعب)، و”كراتوس” (السلطة)، مما يشير إلى “حكم الشعب”، ولكن التعريف الحديث أكثر تعقيدًا، إذ يوضح روبرت دال في كتابه “عن الديمقراطية” أن الديمقراطية لا تقتصر على الانتخابات فقط، بل تشمل ضمانات مثل المشاركة الفعالة والمساواة السياسية1. ويقدم نموذج “البولياركية” (polyarchy) الذي يركز على التنافسية الانتخابية وحريات التعبير2.
وتنقسم الديمقراطية إلى شكلين رئيسيين:
المباشرة: حيث يشارك المواطنون في صنع القرار مباشرةً، كما في أثينا القديمة.
التمثيلية: حيث ينتخب الشعب ممثلين عنه، وهو النموذج السائد اليوم.
كما يُعرِّف أرند ليبهارت في “أنماط الديمقراطية” نموذجين:
الديمقراطية التوافقية: حيث تعتمد على توزيع السلطة بين الأقليات.
ديمقراطية الأغلبية: حيث تركز على حكم الأغلبية3.
وتستند الديمقراطية إلى مبادئ كحكم القانون، والفصل بين السلطات، وحماية حقوق الأقليات.
السيرورة:
التطور التاريخي والأطوار الحديثة:
أ. التطور التاريخي:
بدأت الديمقراطية في أثينا (القرن الخامس ق.م)، لكنها استبعدت النساء والعبيد.
وفي العصر الحديث، ظهرت النماذج التمثيلية مع الثورتين الأمريكية والفرنسية، فيرى صموئيل هنتنغتون في “الموجة الثالثة” أن الانتقال إلى الديمقراطية مرّ بثلاث مراحل:
الموجة الأولى (1828–1926): توسُّع الديمقراطية في أوروبا وأمريكا.
الموجة الثانية (1943–1962): بعد الحرب العالمية الثانية.
الموجة الثالثة (1974–1990): انتشرت في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية4.
ب. التحول الديمقراطي:
يشير “غييرمو أودونيل” و”فيليب شميت” في “التحول من الحكم الاستبدادي” إلى أن التحول يتطلب تفاوضًا بين النخب القديمة والجديدة، مع دور محوري للمجتمع المدني5. وهو الفرق الجوهري الذي ميز الديمقراطية المعاصرة عن سابقاتها.
التحديات المعاصرة:
التآكل والاستبداد الجديد:
تواجه الديمقراطية اليوم تحديات مثل “الانزلاق الديمقراطي” (Democratic Backsliding) و”الشعبوية” التي تستغل الاستقطاب السياسي، لهذا يُحذر لاري دايموند من تآكل المؤسسات الديمقراطية بسبب الفساد وضعف الثقافة السياسية6، كما ويذكر فرانسيس فوكوياما أن تعقيدات الدولة الحديثة قد تعيق الاستجابة الديمقراطية7.
ولكن رغم تحدياتها، تبقى الديمقراطية النظام الأكثر قدرة على تحقيق التوازن بين الحرية والمساواة، وأن مستقبلها يعتمد على تعزيز المؤسسات وثقافة المشاركة، وهو ما يتطلب جهودًا جماعية من النخب والمواطنين على حد سواء.
التحفظات السورية من الديمقراطية: تحليل للقوى غير الديمقراطية ومواقفها:
شكّلت سورية منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة عام 1963م، نموذجًا للأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط – رغم الدعوات الدولية والمحلية للإصلاح الديمقراطي – ،وظلّ النظام السوري يُظهر تحفظات عميقة تجاه التحول الديمقراطي، مدعومًا بتحالفات داخلية وخارجية.
ثم تَرسّخ نظام البعث مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970م، والذي حوّل البلاد إلى دولة الحزب الواحد.
يُشير المؤرخ “حنا بطاطو” إلى أن البعث استخدم أيديولوجية “الوحدة والحرية والاشتراكية” لتبرير هيمنته، مع إقصاء أي معارضة عبر أجهزة الأمن8، كما ويوضح باتريك سيل أن الأسد الأب بنى نظامًا يعتمد على الولاءات العائلية والطائفية، مما عزّز الاستقرار السلطوي على حساب التعددية9.
الإطار الأيديولوجي لحزب البعث:
رغم شعارات البعث حول “الديمقراطية الشعبية”، فقد تحوّلت الأيديولوجيا إلى غطاء للسلطة المطلقة، حيث يرى ريموند هينيبوش أن البعث طوّر “ديمقراطية شكلية” عبر انتخابات مُسيطر عليها، بينما احتكر القرار الحقيقي10.
كما أن كتابات ميشيل عفلق، المؤسس النظري للبعث، تؤكد أولوية “الوحدة العربية” على التعددية الحزبية، مما يُبرر قمع المعارضة11.
الجيش والأجهزة الأمنية، عمادا النظام الأسدي:
شكّل الجيش والأمن ركيزة النظام السوري البائد، حيث باتت الدولة تُدار عبر شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية (المخابرات)، وتُشير “ليزا ويدين” إلى أن نظام الأسد اعتمد على “سياسة الترهيب” عبر إظهار القوة، مما افقد المواطنين الثقة في أي بديل ديمقراطي12.
ووفقًا لـِ “نيقولاوس فان دام”، فإن الأجهزة الأمنية هيمن عليها العلويون، مما عزّز الخوف من أن تؤدي الديمقراطية إلى تغيير في التوازن الطائفي13.
النخب الاقتصادية والرأسمالية الريعية:
مع تحوّل سورية إلى اقتصاد السوق المحدود تحت حكم بشار الأسد، نشأت طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام، يوضح “بسام حداد” أن “الرأسمالية الريعية” خلقت مصالح مشتركة بين النخب الاقتصادية والنظام، مما جعلهم يُقاومون الإصلاح خشية فقدان الامتيازات14.
كما يذكر “فولكر بيرتس” أن الخصخصة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عزّزت الفساد، مما حوّل الديمقراطية إلى تهديد للمصالح المالية15.
العامل الطائفي والهوية العلوية:
يُعتبر النظام السوري السابق نموذجًا للاستبداد الطائفي، حيث سيطر العلويون على كل المناصب الحساسة، ويجدر الملاحظة هنا إلى تحذير “برهان غليون” من أن الديمقراطية في مجتمع متعدد الطوائف قد تؤدي إلى حكم الأغلبية السنية، مما يُهدد الأقليات16.
لكن وفقًا لـِ “رودني ستارك”، فإن نظام الأسد استخدم الطائفية كأداة لتقسيم المجتمع وإضعاف المطالب الديمقراطية17.
المعارضة السورية المنتصرة: تناقضات الديمقراطية:
رغم أن بعض فصائل المعارضة تبنت خطابًا ديمقراطيًا، مثل الائتلاف الوطني، فإن آخرين – كالتنظيمات الإسلامية – رفضوا النموذج الليبرالي. يذكر “ياسين الحاج صالح” أن الثورة السورية واجهت صعوبة في توحيد رؤية ديمقراطية بسبب تنوع الأجندات18.
كما يشير “تشارلز ليستر” إلى أن صعود الجهاديين (كجبهة النصرة) أضعف شرعية المطالب الديمقراطية19.
العوامل الدولية:
دعم الاستبداد:
حصل النظام السوري على دعم من روسيا وإيران، اللتين رأتا في استمراره ضمانًا لمصالحهما، ووفقًا لـِ “ديفيد ليش”، فإن التدخل الروسي العسكري منذ 2015م أعاد ترسيخ السلطة الاستبدادية، مُستخدمًا ذريعة مكافحة الإرهاب20، ومن جهة أخرى، يرى “كريستوفر فيليبس” أن الدول الغربية تخلّت عن دعم الديمقراطية في سورية لصالح استقرار هش21.
لقد أدت الحرب السابقة إلى تفتيت الدولة وتعزيز النزعات السلطوية، حيث لاحظ “روبن ياسين قصاب” أن الثورة تحولت إلى فوضى، مما أعطى نظام الأسد ذريعة لرفض الإصلاح22.
بالإضافة إلى ذلك، يُشير “رياض الترك” إلى أن غياب ثقافة سياسية ديمقراطية في سورية أعاق بناء مؤسسات تعددية23.
حيث تستند التحفظات السورية على الديمقراطية إلى تحالف غير معلن بين النخب العسكرية والأمنية والاقتصادية والطائفية، والتي ترى في الديمقراطية خطرًا على امتيازاتها. كما أن التدخلات الدولية عزّزت استمرارية النظام السلطوي، رغم ذلك، تبقى الديمقراطية مطلبًا شعبيًا، لكن تحقيقها يتطلب تفكيك البنى السلطوية العميقة.
موقف الإسلاميين في سورية من الديمقراطية:
بين البراغماتية السياسية والرفض الجهادي:
شكّلت الديمقراطية إشكاليةً مركزيةً في الخطاب السياسي للإسلاميين في سورية، خاصةً مع تنوّع التيارات بين جماعات سياسية كالإخوان المسلمين، وفصائل جهادية كجبهة النصرة (سابقًا) وهيئة تحرير الشام.
ويتباين موقف هذه الجماعات من الديمقراطية بين قبول تكتيكي، ورفضٍ مبدئي، انطلاقًا من مرجعيات أيديولوجية ودينية.
حيث تُظهر جماعات كما “الإخوان المسلمين” في سورية انفتاحًا نسبيًا على الديمقراطية كآليةٍ لتداول السلطة، وإنْ ضمن إطار “الدولة الإسلامية”.
ففي فترة الثمانينيات، شارك الإخوان في تحالفات مع قوى علمانية معارضة لنظام الأسد، مُؤكدين في أدبياتهم على “الشراكة الوطنية” و”التعددية السياسية”24.
بعد 2011م، دعم الإخوان -من المنفى- “المجلس الوطني السوري”، وطالبوا بانتخابات حرة، رغم تحفّظهم عن فصل الدين عن الدولة25، هذا الموقف البراغماتي فسره “أوليفييه روا”26 كـ”استراتيجية لشرعنة الوجود السياسي في سياق دولي يفرض الديمقراطية كمسارٍ وحيد”! لكنّ هذا القبول لا يخلو من شروط، كتطبيق الشريعة، مما يجعله “ديمقراطية إسلامية” هجينة27.
الجهاديون والرفض الأيديولوجي:
على النقيض، ترفض الفصائل الجهاديةُ، الديمقراطيةَ جذريًا، باعتبارها “بدعةً تتناقض مع الحاكمية الإلهية” كما قال الظواهري28، ففي بيانٍ لها عام 2013م، وصفت هيئة تحرير الشام الانتخابات بـ”عبادة الطاغوت”، مستشهدةً بتفسيراتٍ لابن تيمية حول وجوب الحكم بشرع الله (وثيقة هيئة تحرير الشام، 2017) 29.
يُرجّح “وليم مككانتس”30 أن هذا الرفض مُتأصّل في الفكر السلفي الجهادي، الذي يرى الديمقراطية كـ”نظام كافر” يُشرّع ما حرّم الله، مستندًا إلى مفهوم “الولاء والبراء”. كما يُشير “أدهم المنصر”31 إلى أن الجهاديين السوريين يعتبرون الثورةَ ضد الأسد “جهادًا لتطبيق الشريعة”، لا لتحقيق الديمقراطية.
الحجج الدينية والأيديولوجية:
يعتمد الرفض الجهادي على تأويلاتٍ دينية، مثل تفسير آية ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (الأنعام:57)، والتي يُستدل بها على أن السيادة لله وحده، لا للشعب32.
في المقابل، يحاجج الإسلاميون السياسيون بـ”الشورى” كبديلٍ إسلامي للديمقراطية، رغم أن الباحثة “نيللي لحود”33 ترى أن الشورى في أدبياتهم تظلّ حبيسة النخب الدينية، دون ضماناتٍ دستورية.
ويُضيف عبد الوهاب الأفندي34، أن الخلاف يعكس أزمةً في المواءمة بين الإسلام والديمقراطية، حيث يُصرّ الجهاديون على “تعالي النموذج الإسلامي”، بينما يعيد الإسلاميون السياسيون تعريف الديمقراطية لتناسب ثوابتهم.
السياق السوري وتأثيرات الحرب:
لاشك أن الحرب السورية منذ 2011م أثّرت في تعقيد المواقف، فبينما انخرط الإخوان في المنفى في مساراتٍ سياسيةٍ مدعومةٍ غربيًا، واستغلت الفصائل الجهادية الفراغ الأمني لبناء كياناتٍ تحكُم بالشريعة35، ليُلاحظ “حسن أبو حنيفة”36 أن هيئة تحرير الشام -في مناطق سيطرتها- طبّقت نظامًا قضائيًا يعتمد على الشرع، مع رفض أي انتخاباتٍ محلية، مما يؤكّد فجوةً بين الخطاب السياسي الإسلامي والممارسة الجهادية.
خاتمة:
بعد التحرير، أظهر الإسلاميون في سورية مواقفَ متباينةً من الديمقراطية، تُحدّدها العوامل الأيديولوجية والسياقية، فبينما يقبل الإسلاميون السياسيون بها كأداةٍ تكتيكية، يرفضها الجهاديون كخروجٍ عن الشرع.
هذا التباين يعكس انقسامًا أعمق في الفكر الإسلامي المعاصر حول علاقة الدين بالدولة، ويُؤثّر على مستقبل التغيير السياسي في سورية خصوصاً وأن سورية لم تشهد تجربة ديمقراطية منذ تولي الأسد الأب السلطة.
إلا أن صدمة التحرير وانتصار الثورة وسقوط نظام الأسد، بالإضافة لحمولة رفض الديمقراطية لدى الفاعلين السوريين، ستخلق ولاشك نوعاً من التفاعل، الذي لن يخرج بشكل فُجائي عن تأثيرات المرحلة السابقة وتبعاتها فكرياً أو ممارساتياً، كما لن تعادي التقدم وبناء الدولة الحديثة والذي يصعب أن يكون ناجحاً دون نظام ديمقراطي (وإن اختلفت المسميات والعناوين).
على أننا في مقال سابق تم نشره في موقعنا الرسمي بعنوان: “الديمقراطية في سورية، تحديات وآفاق”37 حددنا رغم التحديات أمام الديمقراطية في سورية أن هناك آفاقا لتعزيزها من خلال:
المشاركة المجتمعية وتشجيع المشاركة الفعّالة للمجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية.
التعليم والتوعية وتوجيه الجهود نحو تعزيز الوعي بمبادئ الديمقراطية وتعليم الشباب حول حقوقهم وواجباتهم.
هذا وقد أوصى تيار المستقبل السوري في ورقته الأساسية -التي تحمل مشروعه الوطني والسياسي والمعنونة بـ : “تيار المستقبل والديمقراطية”38 – الرافضين للديمقراطية أن يعيدوا قراءتها جيداً، فهي السبيل الأوفق والأصلح والأكثر واقعية لحمايتهم من التغوّل المقابل لأيدلوجيتهم، فالديمقراطية الليبرالية هي التي تعطي للأغلبية حقهم بالسلطة، مع ضمان حق الأقلية بالتعبير عن قناعتهم، والسعي للحصول على الأغلبية بطرق سلمية. كما أن الديمقراطية السليمة لاتعادي الدين، بل تحميه وتدعمه، وتحمي مذاهبه وطرقه المتعددة.
المكتب العلمي
فريق البحث العلمي
قسم البحوث والدراسات
دراسات
تيار المستقبل السوري