بعد قيام “دولة إسرائيل” حاول الآباء المؤسسون إقامة نوع من التحالف بين الدول القريبة.
ومن الواضح أنه كان من المستحيل إجراء حوار مع الدول المحيطة “بإسرائيل”، باستثناء الحد الأدنى من الاتصالات السرية، ولكن كان هناك أمل في إمكانية تجاوز دول الجوار والوصول إلى حوار أكثر انفتاحًا مع الدول غير العربية في الدائرة الأبعد عن “إسرائيل” – إيران وتركيا وإثيوبيا.
لكن حدثت تغيرات في العلاقات مع الدول العربية، وكان الاختراق الأهم هو “اتفاق السلام” مع مصر في مارس 1979 وذلك بعد ثلاث حروب خلال 6 سنوات (1967-1973).
على ما يبدو أدرك الرئيس المصري أنور السادات أن العرب لن يهزموا “إسرائيل” في ساحة المعركة، وأنه سيكون من الأفضل لمصر تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة مع الخروج من تحت نفوذ الاتحاد السوفيتي كجزء من تحرك أوسع.
وأدرك كيسنجر “حجم اللحظة” ، وعرف كيفية الاستفادة من نتيجة الحرب في عام 1973 وبدأ عملية انتهت باتفاقية سلام وعلاقات دبلوماسية.
لم يحذُ العالم العربي حذو مصر، رغم كونها أكبر وأقوى دولة عربية مع طموحات قيادية ناشئة عن حجمها وإدراكها لأهمية نفسها.
بعد أكثر من اثنى عشر عاما فُتحت نافذة مهمة أخرى عندما تم توقيع اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين.
فيما بعد اتضح أن هدف عرفات على مايبدو لم يكن التوصل إلى اتفاق حقيقي مع “إسرائيل” ولو حتى مقابل إقامة دولة فلسطينية، ولكن العودة إلى فلسطين من أجل مواصلة النضال ضد “إسرائيل”. وكان موطئ قدم على الأرض هو الهدف الاستراتيجي الأعلى لعرفات، وليس اتفاقًا سياسيًا كاملاً.
لكن النتيجة كانت أن توقيعه على اتفاقية مع “إسرائيل” كسر أحد المحرمات التي ظلت قائمة حتى بعد الاتفاق مع مصر.
وهكذا استطاع ملك الأردن أن يوقع أيضًا اتفاق سلام مع “إسرائيل” في عام 1994، ربما لأنه كان مخطئًا في الاعتقاد بأن سوريا كانت أيضًا على وشك توقيع اتفاقية وأنه لا يريد أن يكون الأخير في الطابور.
هذه الاتفاقيات الثلاث غيرت من مكانة “إسرائيل” وسمحت لدول إسلامية أخرى بتحسين العلاقات معها، لكن معظمهم فعلوا ذلك سراً و “من تحت الطاولة”. وكانت أسوأ كلمة مهينة في العالم العربي في ذلك الوقت هي “التطبيع”، وبسبب الخوف منه أولئك الذين وقعوا اتفاقية مع “إسرائيل” حرصوا على عدم توسيع العلاقات العلنية وتغيير نهجهم تجاه إسرائيل. وبقي “الشارع العربي” متحفظًا جدًا في موقفه تجاه السلام والعلاقات مع “الدولة اليهودية”.
على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية رأى رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو في تغيير العلاقة مع الدول العربية جزءا من رؤية إستراتيجية واسعة النطاق.
وارتبطت هذه الرؤية بكل من الصراع مع إيران ورغبة “إسرائيل” في الاستفادة من نجاحاتها في مجالات التكنولوجيا والإنترنت والطاقة لتغيير موقعها ومكانتها في المنطقة وفي العالم بشكل عام. لقد بُذلت هذه الجهود بمرور الوقت في العديد من الأماكن في الشرق الأوسط وخارجه.
خلال هذا الوقت، التقى قادة مختلفون ومبعوثوهم، معظمهم من مجتمع الاستخبارات ولكن ليس فقط منهم مع نظرائهم “الإسرائيليين”. وقد كرس رئيس الوزراء الكثير من وقته وطاقته لهذا وشارك في العديد من اللقاءات بنفسه.
خمسة عوامل نضجت وسمحت بالكشف عن هذه العلاقة طويلة الأمد التي أدت إلى اتفاقات أبراهام (مارس 2020):
1 : أصبح واضحاً للدول العربية أن “إسرائيل” حقيقة قائمة لا يمكن تغييرها وأنها تزداد قوة، وبقيت أحلام تدمير إسرائيل بلا مسار عملي ولا فرصة للنجاح، بينما تدفع الدول العربية ثمناً باهظاً مقابل ذلك دون إمكانية أن يتحقق هذا.
2: بعد “الربيع العربي” نشأ وضع متفجر للغاية وغير مستقر في الشرق الأوسط.
ولم تتحول أي ديكتاتورية إلى ديمقراطية، وتلاشت الآمال في التغيير الداخلي بسبب الوضع الصعب في العالم العربي.
وازدادت قوة القوى الإسلامية وأصبحت قوة تشكل خطراً داخليا.
وبحث مختلف الحكام عن طرق لتحسين الوضع الاقتصادي والتعامل مع التوجهات الإسلامية التي تم الترويج لها بشكل أساسي من قبل قطر وتركيا. وحكام العرب يحتقرون الأولى ويكرهون الثانية.
3 : العالم لا يتأثر كثيرا بالمشكلة الفلسطينية.
وأصبح تمسك الدول العربية بالقضية غير ذي صلة ومضيعة للوقت.
لقد أدرك العرب أن الفلسطينيين لم يستغلوا الاتفاقات مع “إسرائيل” من بداية عام 1993 لإقامة دولة فاعلة، وبدلاً من ذلك أصبحوا كيانًا متسولًا يطلب المزيد والمزيد من المال ويشكو وينتقد الجميع.
كثير من الحكام العرب ضاقوا ذرعا بالفلسطينيين. بالنسبة لهذه البلدان يشكل الفلسطينيون عبئًا وليس حاجة حقيقية مُلحة تحتاج إلى حل لأسباب سياسية وأخلاقية.
4 : أصبحت إيران قوة كبيرة وعدوانية لا تتردد في مهاجمة وإلحاق الضرر بمن لا يتعاون معها.
لقد أدرك العرب أن العدو الرئيسي للعالم العربي ليس اليهود بل الشيعة، وهم أقلية تبلغ 15 في المائة في الشرق الأوسط، ميزتهم الكبرى أن إيران تقودهم، بينما السنة ليس لديهم قيادة متفق عليها أو قوية بما يكفي لقيادتهم.
لقد طغى على السنوات الخمس والعشرين الماضية تعاظم إيران وحلفائها في العالم العربي، وخوف العرب السنة من الشيعة.
5 : وأخيراً ،، تراجع التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.
وهذا نتيجة خيبة الأمل من نتائج الحروب الطويلة في أفغانستان والعراق، وتراجع الاعتماد على الطاقة من الشرق الأوسط، وإدراك الولايات المتحدة أن التحدي الأهم الذي يواجه مستقبلها يكمن في الشرق.
صعود الصين أجبر الولايات المتحدة على تحويل الجهود وعلى حد تعبير الرئيس أوباما أجبرها على التركيز نحو الشرق.
الحاكم العربي الذي يشعر بأن المظلة الأمريكية التي كانت تحميه حتى الآن تضعف أو تتقلص مع تزايد التهديد الإيراني، أمامه خياران:
الأول: حل وسط مع إيران – ولكن بالتأكيد فقد السيادة بشكل بطيئ كما حدث في لبنان. هذا ما كاد الإيرانيون أن يحققوه في العراق، وهذا ما يحاول الأسد منعه بحرص في سوريا.
الثاني: رؤية “إسرائيل” كمرتكز للاستقرار وكم يمكنها المساعدة في تحسين الاقتصاد وتوفير التكنولوجيا والمساعدة في الوقوف في وجه إيران.
حيث اقترح الرئيس ترامب تغييرًا في المؤامرة طويلة الأمد وعندما تم عرض “اتفاقات إبراهام”، أدرك بعض حكام دول المنطقة بالفعل الوضع الجديد. وفكر فريق ترامب بعيدا وقدم اقتراحًا من خارج الصندوق. ولحسن الحظ بالنسبة للشرق الأوسط، كان لدى الإمارات العربية المتحدة و”دولة إسرائيل” في الولايات المتحدة سفراء أذكياء وشجعان عرفوا كيف يتعاملون بحزم وأن يقدموا بدعم أمريكي عرضًا كان من الصعب رفضه وبالطبع ساهم الأمريكيون أيضا بحوافز في هذه العملية.
افتقرت إدارة ترامب إلى حد كبير إلى الخبرة السابقة في شؤون الشرق الأوسط، لذلك كان بإمكان الفريق الذي عمل في المفاوضات التحرر من النموذج طويل الأمد.
كان التصور السائد هو أن مفتاح مستقبل الشرق الأوسط في أيدي الفلسطينيين وأن الاتفاق معهم وحده هو الذي سيحرر الدول العربية ويسمح لها بالمضي قدمًا في علاقات مفتوحة علنية مع “إسرائيل”. ولكن الفريق الأمريكي تجاوز “المشكلة الفلسطينية” لصالح تغيير علاقة “إسرائيل” بثلاث دول عربية (الإمارات والبحرين والمغرب)، بعد إدراكه بأن الفلسطينيين ليسوا مستعدين لحل يمكن أن تقبله “إسرائيل”. وأنهم لا يريدون حتى مفاوضات جادة ومباشرة معها.
في “إسرائيل” اتضح لرئيس الوزراء في ذلك الوقت (نتنياهو) أن هناك خلافًا بين قاعدته السياسية حول البديل الذي تضمن إعلان “السيادة الإسرائيلية” “فقط” في غور الأردن.
وكان هناك من بين قادة المستوطنات الذين اعتقدوا أنه إذا لم يكن هناك حل كامل (السيادة على كل الضفة الغربية دون ذكر دولة فلسطينية في المستقبل) فمن الخطأ الموافقة على السيادة على جزء من المساحة؛ لذلك كان من الأسهل على رئيس الوزراء التنازل عن السيادة الجزئية مقابل كسر السقف الزجاجي في علاقات إسرائيل مع الدول العربية التي ليس لها حدود مع “إسرائيل”.
على أرض الواقع مثلما تجلى ذلك في الممارسة العملية فور توقيع اتفاقيات إبراهام، اتضح أن العلاقات مع هذه الدول الثلاث تختلف عن العلاقات التي نشأت نتيجة للاتفاقيات مع مصر والأردن.
الاتفاقيات الأولى كان معناها العملي ضيقًا للغاية وركزت على مجالات أمنية مختلفة.
من ناحية أخرى، فإن الخوف من “التطبيع” مع “إسرائيل” الذي خيم كلعنة وكقيد عميق على العلاقة مع الأردن ومصر لا وجود له مع المغرب والبحرين والأمارات العربية المتحدة.
وقررت هذه الدول أن هذه ستكون اتفاقيات من شأنها أن تؤدي إلى مجموعة واسعة من التعاون والسلوك العلني غير المقيد في مختلف المجالات، بما في ذلك زيارة القادة “الإسرائيليين” على جميع المستويات إلى هذه الدول دون أي تستر (فيما يتعلق بالزيارات الموازية إلى “إسرائيل”، لا يزال الحذر يسود بين جميع الدول العربية).
وقد ساهم هذا التغيير في حقيقة أن أصبحت الأردن وخاصة مصر تروجان لقضايا التعاون المشترك أكثر من ذي قبل.
تغيير آخر ساهم في احتمالات التعاون العسكري المشترك بطريقة حقيقية هو نقل “إسرائيل” في نظام الدفاع الأمريكي من القيادة الأوروبية (يوكوم) إلى القيادة المسؤولة عن الشرق الأوسط بأكمله (القيادة المركزية الأمريكية).
إن التواجد تحت نفس القيادة مع الدول العربية يجعل من الممكن التعاون معها تحت مظلة الإطار الأمريكي، مما يسهل الأمر على العرب الذين ربما كانوا مترددين في تعاون واضح ومباشر مع الجيش “الإسرائيلي”. على سبيل المثال يجلس الآن ممثل عن الجيش “الإسرائيلي” في المقر الرئيسي للأسطول الخامس الأمريكي الموجود في البحرين.
إنه ممثل للنظام الأمريكي، لكن مقر إقامته في دولة عربية وقعت على “اتفاقيات إبراهام”، ويمكن أن نتخيل فقط كيف أن وجوده واتصالاته يمكن أن تساهم في العلاقات بين الجيوش.
التتويج الحالي للعملية الأمنية التي يحاول الأمريكيون الترويج لها هو إنشاء شبكة إقليمية من الاستخبارات والرادارات والإنذارات من الهجمات الإيرانية بالصواريخ والطائرات بدون طيار وصواريخ كروز.
سيكون هنا دمج مادي وتنظيمي بين الجيش “الإسرائيلي وعدة دول عربية، بعضها وقع اتفاقية سياسية مع “إسرائيل” وبعضها (السعودية، العراق، الكويت؟) لم يوقع.
من المحتمل أن تكون هذه هي أول منظمة إقليمية يكون ل”إسرائيل” فيها مكانة مشرفة، وعليها أن تقرر إلى أي مدى يمكنها أن تكشف عن قدراتها في هذه المجالات، لأنه في بعضها لا بديل لها.
من المهم التأكيد على أنه مع كل أهمية العلاقات العسكرية، سيتم اختبار اتفاقيات إبراهام في المستقبل أيضًا على أساس الإنجازات الاقتصادية، وكذلك في ضوء تغير الموقف العربي تجاه “إسرائيل” على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. ومن هنا تأتي أهمية مشاريع مثل “البيئة الطاقة والمياه”، والتي في إطارها ستساعد الأمم المتحدة في بناء مزرعة كبيرة للطاقة الشمسية في الأردن، وسيتم نقل الكهرباء الخضراء التي سيتم توليدها هناك إلى “إسرائيل”، وهذه في المقابل ستنشئ محطة كبيرة لتحلية المياه في البحر الأبيض المتوسط وتضخ المياه إلى الأردن، والذي يعتمد بالفعل بشكل شبه كامل الآن على إمدادات المياه من “إسرائيل”.
يشكل الوضع الجديد الذي نشأ تغييرًا جوهريًا.
لأول مرة يتضح أن العلاقة القائمة في الشرق الأوسط ذات قيمة متبادلة. ليست “إسرائيل” وحدها هي التي تحتاج إلى الشرعية من المحيط او ممن حولها، لذلك يجب أن تعمل على خلق منظومة علاقات مختلفة مع الدول العربية.
الآن تحتاج الدول العربية السنية إلى العلاقات مع الدولة اليهودية ليس أقل من حاجة “إسرائيل” لها.
لخلق منطقة أكثر أمناً وأدوات أفضل لديها للتعامل مع الواقع الصعب الذي تواجهه بعد “الربيع العربي”، وفي ظل العدوان الإيراني والتردد الأمريكي.
من أجل فهم الشرق الأوسط الجديد وأهميته الواسعة، من المفيد فهم الوضع التالي: لبنان ينهار اقتصاديًا ولا يقوم بوظائفه كدولة، بسبب التدخل الإيراني العميق في البلاد والدور السلبي لتنظيم حزب الله في لبنان. وأحد النتائج هي نقص في الطاقة والكهرباء. في صيف عام 2022 تقل ساعات الكهرباء في بيروت في اليوم عن تلك الموجودة في قطاع غزة.
الحل الناشئ المحتمل بعد فشل محاولات حزب الله لاستيراد النفط الإيراني مذهل: وهو أن “إسرائيل” ستبيع الغاز لمصر وسيتدفق الغاز من مصر الى الأردن من خلال ما يعرف بـ “خط الانابيب العربي” ومن هناك إلى سوريا. وسينتقل الغاز من سوريا إلى لبنان وسيُستخدم في تشغيل محطات توليد الكهرباء لديها، وبالتالي سيحصل اللبنانيون ومنهم نصرالله، على الكهرباء التي مصدرها “الغاز الإسرائيلي”.
بالتزامن مع تعزيز العلاقة بين “إسرائيل” و “دول الوضع الراهن السنية “، نشأت منظومة علاقات مهمة أخرى مع الدول في الغرب من “إسرائيل”، مع جيرانها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. أقرب دولة غير عربية إلى “دولة إسرائيل” هي قبرص، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي احتلت تركيا (1974) الجزء الشمالي منها، والتي تشترك معها “إسرائيل” في المياه الاقتصادية في البحر الأبيض المتوسط (ما يسمى بالمنطقة الاقتصادية الخالصة). “إسرائيل” عثرت على كميات كبيرة من الغاز في أراضيها، وهناك حقل واحد (أفروديت) مقسم بين البلدين ومعظمه في الأراضي القبرصية.
تتمتع قبرص الناطقة باليونانية بعلاقة واسعة مع اليونان الشقيقة الكبرى من بعض النواحي، والتي تقع غربها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث تحافظ الدول الثلاث على شبكة علاقات واسعة.
إنهم يساعدون بعضهم البعض في الحاجة، مثل إخماد الحرائق التي تندلع كل صيف وسد الفجوات أثناء الأزمات، على سبيل المثال: قامت “إسرائيل” بنقل العديد من المولدات إلى قبرص عندما كان هناك عطل في محطة الطاقة هناك إلخ.
وفتحت الشركات الإسرائيلية مكاتب في قبرص المجاورة، لأن هذا يجعل حياتهم التجارية أسهل في السوق الأوروبية واليونان هي واحدة من البلدان المفضلة لدى السائح “الإسرائيلي”.
حول الغاز الذي تم اكتشافه في البحر الأبيض المتوسط كان هناك أيضًا الكثير من التوتر. وقعت تركيا التي تقع في الطرف الشمالي الشرقي للبحر الأبيض المتوسط اتفاقية مع إحدى الحكومات التي تدعي السيطرة على ليبيا على تقاسم المياه الاقتصادية بينهما، متجاهلة وجود جزيرة كريت وقبرص. وهذا يمكن أن تتضرر منه “إسرائيل”، لأن أي ربط بأوروبا سواء بخط أنابيب أو كابل سيعبر من المساحة المشتركة بينهما في قاع البحر.
قبرص واليونان – اللتان تخافان من استخدام تركيا للقوة في منطقة الجزر اليونانية (القريبة جدًا) من تركيا في بحر إيجه – تريان في السلوك التركي بما في ذلك التوسع في البحوث البحرية استعدادًا للتنقيب على مايبدو عن الغاز بالقرب من سواحل قبرص سلوكًا عدوانيًا وخطيرًا على أمنهم القومي.
وهناك كثير من بينهم يتوقعون أن “إسرائيل” القوية عسكرياً، في موقعها الجديد وبسبب علاقاتها مع اليونان وقبرص سوف “تهدئ” من تركيا الاقوى منهم، التي لا تخشى من تحديهم في البحر والجو.
صحيح أن “إسرائيل” ليس لديها مصلحة في مواجهة تركيا، لكن “إسرائيل” لن تستطيع السماح لتركيا بتحقيق أحلامها في البحر الأبيض المتوسط والفصل بين “إسرائيل” وأوروبا (بناءً على ادعاء اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة التي وقعتها مع ليبيا).
أعربت تركيا مؤخرًا عن رغبتها في أن تقوم “إسرائيل” بتصدير غازها إلى أوروبا عبر أراضيها؛ مما يجعل تركيا دولة بالغة الأهمية لاقتصاد “دولة إسرائيل”. ويخشى القبارصة واليونانيون من أن مثل هذه الخطوة ستبعد إسرائيل عنهم وتعزز من قوة المساومة التركية.
لدى “إسرائيل” أسباب وجيهة كافية لعدم ارتكاب مثل هذا الخطأ، منها عدم الرغبة في الاعتماد على نظام أردوغان وأتباعه الذين يشبهون الإخوان المسلمين في معتقداتهم.
بغض النظر عن مسألة خط أنابيب الغاز، يجب على “إسرائيل” تعزيز علاقاتها مع اليونان وقبرص وعدم إضعافهما.
بعد اكتشافات غاز مهمة قامت بها مصر أيضًا تم تنظيم مجموعة من الدول حول حوض الغاز في شرق البحر المتوسط وتم إنشاء اتصال آخر بين “إسرائيل” ومصر، والذي لا يتأثر بالحدود البرية في سيناء بل بالمصلحة المشتركة في البحر الأبيض المتوسط.
تجتمع مجموعة الطاقة هذه التي تضم أيضًا قبرص واليونان من حين لآخر، ولكن يجب تحويلها في المستقبل إلى مجموعة أكثر تنسيقًا.
في أي مخطط مستقبلي يجب تعزيز نظام العلاقات هذا وتوسيعه.
إذا أمكن، يجب إدراج الدول ذات المصالح التكميلية حتى لو لم تكن موجودة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مثل الإمارات العربية المتحدة والأردن.
وإذا طالبت الدول العربية بإضافة الفلسطينيين إلى هذه المجموعة، فلا مانع من ذلك. على الجانب الأوروبي قد يؤدي انضمام إيطاليا (المترددة بسبب مصالحها القديمة في ليبيا)، وربما دول أخرى إلى تحويل البحر الأبيض المتوسط الذي اتضح أنه حقل غاز كبير إلى نظام يربط بين الشرق الأوسط ومجموعة “اتفاقيات إبراهام” وبين الجناح الجنوبي للاتحاد الأوروبي حيث تكون “إسرائيل” ومصر هم الجسر الذي يربط بين النظامين.
إن إضافة الهند كشريك تجاري رئيسي إلى محور دول “اتفاقيات إبراهام”، وبالتأكيد بعد إعلان المملكة العربية السعودية علنًا عن انتمائها إلى هذا المحور، سيؤسس كتلة قوية ذات قدرات اقتصادية وتكنولوجية ومهمة للنظام العالمي الآخذ في التشكل.
وفي عالم تطغى فيه التوترات بين الصين والولايات المتحدة على كل ما يحدث في العالم، فإن تشكيل مثل هذه الكتلة التي تستمد قوتها من مناطق ليست جزءًا من هذه المنافسة هو ظاهرة مهمة اخرى غير العلاقات بين “إسرائيل” والدول العربية.
وأخيراً: هناك نظام آخر يغير الواقع ويوضح التغيرات التي حدثت في محيط “إسرائيل”. حيث يدفع الاتحاد الأوروبي بل ويمول جزءًا من مد كابل كهربائي بين اليونان وكريت وقبرص و”إسرائيل”، و خرج كابل آخر من قبرص سيتم ربطه بنظام الكهرباء المصري .
وبشكل عملي سينشأ نظام كهربائي يمكنه تحقيق التوازن بين هذه البلدان بطريقة توفر الحل الأمثل لكل دولة وفقًا لاحتياجاتها.
إذا تم ربط مصادر الطاقة الخضراء بهذا النظام، مثلما تخطط جزيرة كريت للبناء على الجزيرة، وإذا نشأ ربط بين النظام المصري والنظام السعودي وإذا تمكنت قبرص من بناء محطة كهرباء كبيرة في الجزيرة بحيث تكون سبب لتطوير حقول الغاز لديها – فسيتم إنشاء نظام كهرباء يمتد من أوروبا إلى “إسرائيل” والمملكة العربية السعودية.
مثل هذا النظام سيجعل من الممكن ترتيب تدفق التيار من أنظمة الكهرباء المنفصلة بشكل أفضل وسيوفر درجة كبيرة من أمن الطاقة على أساس القدرات المختلفة والمتكاملة لمختلف البلدان، ونتيجة لذلك ستصبح قبرص مركزًا إقليميًا لإنتاج الكهرباء.
يمكن ل”إسرائيل” التي إحدى قدماها مغروسة في الكتلة العربية المتوجهة شرقا وجنوبا، بينما قدمها الأخرى تقف في شرق البحر الأبيض المتوسط المتوجه غربا، أن تكون الجسر الذي يربط ماديًا وفكريًا بين هاتين الكتلتين، وأن تلعب دورًا أكثر أهمية في تنمية وتطوير المنطقة بأسرها.
هل “إسرائيل” جاهزة أو مبنية للتعامل مع الأوضاع الجديدة باعتبارها “قوة إقليمية” – هذا سؤال تكون الإجابة عليه معقدة، لكن من الواضح أن الوضع الجديد يتطلب طريقة تفكير “إسرائيلية” مختلفة ونهجًا مختلفًا لالتزام “إسرائيل” ضمن نظم العلاقات الذي تشكل وأصبح واقعاً.
وكما هو معتاد في الشرق الأوسط، ستكون هناك دائمًا جهات ستحاول تقويض الهيكل الذي يتم تشكيله وبعضه بقيادة الولايات المتحدة. يمكن أن تكون هذه إيران – في اليوم الذي تصبح فيه دولة نووية ستصبح زعيمة إقليمية وتقوض التحالف بين دول “اتفاقيات إبراهام”، وحتى ذلك الحين ستستثمر في وكلائها و”المنظمات الإرهابية” التي تحاول تقويض الوضع.
ويمكن أن تكون تركيا – والتي بعدوانية لا هوادة فيها من قبل دولة عقدت العزم على تحقيق أحلامها في الإمبراطورية يمكن أن تجعل من البحر الأبيض المتوسط منطقة لا يمكن فيها تحقيق التعاون المشترك ولكن فقط العمل بقوة الذراع.
ويمكن لروسيا والصين – اللتين لا تريدان رؤية الولايات المتحدة تشكل وتتصدر وتقود تحالفات إقليمية – أن تتدخل أيضًا. لذلك، يجب على “إسرائيل” إدارة خطواتها بعناية، وإعطاء الأولوية للعلاقة مع دول الخليج وتنفيذ مشاريع كبيرة معها، وتعزيز علاقاتها مع مصر والأردن والمغرب وكذلك أن تتبنى أكثر العلاقات الاقتصادية والسياسية مع اليونان وقبرص مع الاستفادة من الارتباطات بينها وبين أوروبا.
هناك “شرق أوسط جديد”، لكن على عكس رؤية أهل أوسلو، فهو لا يعتمد على الفلسطينيين وهو حقيقي، من دون تخيلات لا أساس لها من الواقع.
يجب الحفاظ عليه ورعايته.