وشعوب العالم - خاصة المعتنقين منهم للرسالة السماوية المسيحية - يستعدون للاحتفال بميلاد يسوع المسيح "عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ"، ومن منطلق أن جوهر الرسالات السماوية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام) هي في واقع الأمر جوهر واحد و إن اختلفت تجلياته بحسب الزمان و المكان، ارتأيت أن أكتب هذا المقال مراهنا على قراء محتملين سيتجاوبون معه وهذا لا يعني أنني أعتمد الاستفزاز أو الإثارة .
لا جدال في أن تواجد الرسالات السماوية الثلاث الكبرى(اليهودية ، المسيحية و الإسلام )قد عملا على توطيد التعددية وهي صفة طبيعية للتجمعات البشرية وعلى هذا النحو فان التعددية الملتصقة بحرية الاعتقاد والتي هي بمثابة شرط أولي لكل تعايش بين إثنيات وأجناس متباينة كثيرا ما حوربت من لدن أصحاب المشاريع الموحدة الرافضة لقبول الغيرية والاعتراف بها، فعندما نستقرئ التاريخ نجد أن الاعتراف بحرية الاعتقاد كلف الإنسانية غاليا فهناك إثنيات عديدة اختفت وتم استئصالها وهذا الثمن الفادح هو ما أتاح للتعددية أن تستعيد أنفاسها والحياة وهذا ما يوضح استحالة نجاح التوحيد القسري كما يبين الدور الإيجابي لحرية الاعتقاد وللتنوع الثقافي.
لفهم ظاهرة الرسالات السماوية تحت هذا العنوان (مــا هــو الديـن؟):
نشرت إحدى المجلات الفرنسية دراسة شارك فيها مجموعة من الباحثين و المفكرين أوروبيين و عرب حاولوا في هذه الدراسة إعادة التفكير في هذا السؤال في ضوء هذا المنعطف الكبير و الخطير الذي تشهده الإنسانية و لاسيما من منظور الفهم العربي الإسلامي، هذا الفكر الذي أصبح أكثر فأكثر تعبيرا عن نزعة متمركزة حول ذاته لأنه مس في صميمه و لو أنه يحاول تغطية ذلك بصيغ خطابية متنوعة تصب كلها في اتجاه الاعتراف بحرية الاعتقاد بدون أن يدرك هذا الخطاب بعد أن انعدام المعرفة بهذه الحرية يمكن أن يكون له وظيفة ما في حياة المجتمع، فبعض الدول التي أحدثت تغييرات جوهرية مستندة في ذلك إلى الاعتقادات الدينية و التي كانت تعمل على تهميشها فقد جاء رد فعل من أعماق المجتمعات المحتجة على نمط الحياة المستبعد لكل اعتبار عقائدي الذي جاءت به الرسالات السماوية ، فجوهر الرسالات السماوية تؤكد على حق الإنسان في حرية الاعتقاد و الحياة الكريمة بل أساس الثواب و العقاب التي أقرتها تلك الرسائل هي فرصة متكافئة لكل إنسان فهي – الرسالات السماوية – لا ترضى بطبقية تورث عقاب الفقر و الجهل و المرض لغالبية الناس و تحتكر ثواب الخير لقلة منهم و من هنا يجب الإقرار أن حرية الاعتقاد التي منحت للإنسان هي من أكبر حوافزه للتقدم و العيش الكريم .
إن الرسالات السماوية كلها في جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت حرية معتقد الإنسان و هذا لا يتصادم مع حقائق الحياة و إنما ينتج التصادم في بعض الظروف من محاولات تجار الدين في استغلالها للدين ضد طبيعته و روحه لعرقلة أي تقدم و تحرر في المجتمعات وذلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته و على المفكرين الاحتفاظ للدين بجوهر رسالته، لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية و لكن تجار الدين الذين أرادوا استعباد البشر و احتكار الخيرات اقدموا على جريمة ستر أهدافها بالدين و راحوا يلتمسون فيه ما يتعارض و أهدافه فما يحدث الآن في العالم من تحولات و اهتزازات لا يمس الإختيارات السياسية و الاقتصادية أو النماذج الثقافية فقط بل يهم بالأساس مستويات عميقة في حرية الاعتقاد .
إن الإقناع الحر هو القاعدة الصلبة للإيمان و الإيمان بغير حرية الاعتقاد هو التعصب و التعصب هو الحاجز الذي يصد كل فكر جديد و يترك أصحابه بمنأى عن التطور الذي تصبو إليه البشرية في كل مكان و مهما يكن من أمر فان العالم و لاسيما في المناطق الأكثر سخونة اجتماعيا – العالم العربي الإسلامي خصوصا – يشهد عودة كبيرة للمكبوت ، فبعيدا عن كل فهم فولكلوري لما يحدث على صعيد الاعتقادات فان الدراسة العقلانية و الهادئة مطلوبة لفهم الأسباب العميقة و الأبعاد الحقيقية لظاهرة حرية الاعتقاد فبعض البلدان قد أحدثت تغييرات مستندة في ذلك إلى الاعتقادات الدينية التي طالما عملت على تهميشها و ذلك نتيجة رد الفعل من أعماق المجتمع محتجا على نمط الحياة المستبعد لكل اعتبار لحرية الاعتقاد ،إن حرية الاعتقاد وحدها هي القادرة على تحريك الإنسان إلى ملاحقة التقدم فحرية كل فرد في صنع مستقبله وفي تحديد مكانه من المجتمع وفي التعبير عن رأيه ولا بد أن يستقر في ادراكنا أنه لا حرية لاعتقاد الفرد بغير تحريره من براثين الاستغلال وذلك هو الأساس وجوهر الرسالات السماوية، وكل عام وشعوب العالم في محبة وسلام .